يطفح المجال بتناقضات زائفة، لا يوجد شيء حقيقي في المناسبة أو التناقض، فهذان معطيان بهما قِوام الحركة الجوهرية في الطبيعة والمجتمع، بل قل إنّهما شرط الإرادة في إدارة تحوّلات وصيرورة العالم، الإرادة هنا كتمثّل آخر غير ماثل للفاهمة إن شئت الذهاب مذهب شوبنهور.
لا شيء حقيقي في دورة الزّيف التي هي خارج كلّ شروط التّمثّل. سأضيف إلى التمثلين الشبنهورينن التّمثّل الزّائف، زيفا مقصودا، وهو ما يلتقي بفكرة عدم سلامة الكوجيطو، من حيث ليس هناك نقاء بفعل الشّكّ، لأنّ الشّك نفسه قابل للزّيف، فالذّات تخون أدواتها الخصبة في تمثّل العالم.
إنّ إهمال التناقض المنطقي الذي هو محرك العالم نحو التركيب الخلاّق، الحركة الجوهرية باعتبارها حركة نحو الكمال. إذن ثمة تناقض صريح وتناقض ملتبس.
بين التناقض الصريح والتناقض الملتبس، حكاية هذا الاختلال الديالكتيكي، المسؤول عن اشتباك مغشوش بين الأطروحة ونقيضها، افتعال النقيض والتشويش على التركيب، وهي واحدة من الأسباب المسؤولة عن سيادة التفاهة في الموقف والقرار، في بيئة تعيش على سبيل الحركة الفوضوية لا الحركة التي تنتج تحولا حقيقيا.
هذا ما سأحاول تحليله بعد تأمل علمي في تخبط الوضع العربي، في نظام عربي محكوم بالتبعية الصريحة أو المقنعة، وهيئات مجتمع مدني انتهازية تعيد إنتاج الاختلال في الرؤية والوعي، وتشوش على الحركة الجوهرية للمجتمع، سيكولوجيا محكومة بتداعيات عقدة حقارة، سيكولوجيا الثأر والتآمر والخسة، كما سنعالج صعود نجم الشعبوية والصعلكة السياسية والشعور الدافق بالخواء التاريخي، بنية عاجزة عن الانعتاق والتحرر ، تراجع النخبة، وفتح المجال للرعونة السياسة الكئيبة، انحطاط الغريزة الثقافية، وصعود نجم الحرفشة.
فحين يغيب المثقف يحل خنزب التسطيح والانتهازية، المافيا بنكهة القبيلة، التحليل الابستيموبوجي والسوسيولوجي للقِوادة السياسوية، دق ناقوس الخطر حتى لا تدك التفاهة مكاسب انتصاراتنا، هو لا شكّ خطاب يزعج الحرافيش بلا شك، وهو ما يؤدي لتشكيل جبهة الاستقراد الثقافي كجيب في خاصرة الأمة يقاوم النقد الجذري، واصطفاف التفاهة ضد العلم والمروءة والمبدأ، كيف نستطيع تقويض لعبة الكلاب الضالة في متاهتنا العربية وتمزق هويتها الحضارية، ماذا عن مصير وعينا الجماعي…etc.
في لحظة تاريخية حاسمة يتعالى صوت الازدواجية، لأنّه ليس للانتهازية راحة بيولوجية، فهي تواكب كلّ الأحداث، ويصبح لها دور كبير في الأزمات. لا شكّ أنّ الانتهازية تتعالى على المبدأ في الأزمنة الحرجة. ولكن التّاريخ في لحظة ميلاد تشابط الأحداث يقتضي أنّ يكون هناك سياسة لحماية الحركة الجوهرية من التشغيب.
إنّنا نؤمن بأنّ كلبا ينبح لك أفضل من كلب ينبح ضدّك، ففي مزرعة الكلاب الضّالة لا خيار سوى أن تتعوّد على انتقال النُّباح الأوبرالي من مستوى إلى آخر، كناية عن التشقلبات التي نجدها في مواقف هجينة، ترفع إيقاع الزّعيق لتمسح تاريخا من مفاعيل عقدة حقارة.
إنّ صناعة الوعي والمعرفة في اللحظات التاريخية القصوى، ليس أُخدوعة الوقت بدل الضّائع، بل هي خُلاصة تاريخ الأفكار وتفاصيل الوعي البشري على هذه الأرض.
إنّ معركة الوعي حين تُعانق الزّيف، هي بدورها تمثل تشغيبا على ميلاد الوعي بالظاهرات الاجتماعية. وفي المجال، يسبق الزعيق الوعي، كما تخترق التّفاهة كلّ هذه الاختصاصات، وبخيمياء شيطانية، بات كلّ شيء سهل، وتساوت الأدلّة، لتفتح المجال للمفارقة والتطبيع مع المغالطة بوصفها البديل المنطقي.
ندرك من خلال تفحّص الظاهرة، أنّ اللحظة التّاريخية الانتقالية، حيث تتراجع المناعة، وتتكاثر الباكثريا، هذا أمر طبيعي، ولكن الباكثيريا الضّارة بالجسم هي نفسها معرّضة للاندثار، واندثاراتها تُعد بالملايين، شأن موت الميكروبات.
إذا أدركت طبيعة المنعطف التاريخي، العتمة التي تسبق الضياء، سنجد في هذا العالم عجائب، لكن إدراك اللحظة يخفف عن النفس بعض العناء.
زرت قبل أيام سوقا بدويّا، كان الهدف هو استعادة اللحظة الطبيعية للكائن (بيو)، هناك وجدت البداية مناسبة، لا سيما وأنّ الوفاء للزعيق السوقي لا زال حاضرا، ولم أر خلافا بين المشهدين، الدكاكين التي تشاغب وتساهم في هذا الاختلال الدياليكتيكي هي نفسها من منظور موسيقى تشبه لحظة النداء التاريخي: ها دوا دلبرغوت(هنا دواء البرغوت، البق، الجرذان…)، وهو ما يمنحني الإصرار على المقاربة الأنثربولوجيا للمشهد الزّاعق، مهما تلفّح بالمفاهيم التي هي نتاج تجربة حضارية في الوعي والحضور.