لم تعد فرنسا تبحث كثيراً في حيثيات قرار الرئيس إيمانويل ماكرون، الأحد الماضي، حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان)، والدعوة إلى انتخابات مسبقة آخر الشهر الجاري. فالأمر حصل وسط دهشة حكومة الرئيس ووزرائه الذين بالكاد تبلّغوا الخبر قبل وقت قصير من إعلانه.
ولئن يستجيب ماكرون ولو عن غير قصد لدعوات مارين لوبن، زعيمة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرّف، بالذهاب إلى انتخابات مسبقة، وخصوصاً إذا فاز حزبها في الانتخابات الأوروبية، فإن تساؤلات وتكهنات ما زالت تسعى بصعوبة إلى تفسير مخاطرة الرئيس بإسقاط برلمان فرنسا في حضن اليمين المتطرّف.
استفاد ماكرون مرّتين من آلية التخويف من خطر يمين متطرّف يحكم البلاد. ساهم ضعف الأحزاب السياسية التاريخية التقليدية، يميناً ويساراً، في تسجيل حزب لوبن تقدّماً وصل إلى حدّ أن تقود هي اليمين المتطرّف لمنازلة ماكرون ومنافسته على أبواب قصر الإليزيه.
جرى ذلك في انتخابات عام 2017، وجرى ذلك أيضاً في انتخابات عام 2022، وفي المرّتين كادت ابنة جان ماري لوبن، الزعيم التاريخي لليمين المتطرّف، أن تفوز على خصمها لولا اضّطرار أحزاب اليمين واليسار التقليدي، وحتى الراديكالي بالنسبة إلى حزب “فرنسا غير الخاضعة” بزعامة جان لوك ميلونشون، مرغمين، للتصويت إلى ماكرون “السيئ” (بالنسبة إلى خصومه) لردّ أخطار “الأسوأ” عن حكم البلاد.
لا تفسير لقرار ماكرون الأخير خوض مغامرة أقرب إلى المقامرة إلّا استجداء الفرنسيين لردّة فعل جماعية، متجاوزين انقساماتهم وتعدّد أحزابهم، من أجل حماية فرنسا من حمى تطرّف مقيت. ولا بأس في هذه المناسبة من استدعاء التاريخ، والتذكير بأصول هذا اليمين المتطرّف المتحدّر من عهد النازية والفاشية وحكومة فيشي الفرنسية المتعاونة مع الاحتلال. غير أن فرنسا تغيّرت وتغيّر مزاج الكتلة الناخبة التي لم تعد ترى في حزب لوبن خطراً، ولم تعد تجد أن التصويت له عار يتمّ ارتكابه في الخفاء.
تقدّم اليمين المتطرّف في دول عديدة في أوروبا في العقود الأخيرة. ومنذ أن انتخبت الولايات المتحدة دونالد ترامب رئيساً في عام 2016، فإن كافة أحزاب اليمين المتطرّف والتيارات الشعبوية انتعشت وتفاخرت بوجود ملهم وعنوان كبير لها في البيت الأبيض. جرت عملية “تطبيع” لوجود اليمين المتطرّف في فرنسا، خصوصاً أن مارين لوبن سعت إلى التنصل من إرث والدها المثير للجدل، والذي اعتُبر وحزبه دائماً معادِيَين للسامية.
ثم إن الابنة البراغماتية لم تتراجع عن شعارات والدها فحسب، بل تراجعت عن مواقفها الشخصية، حين وجدت أن لا سوق انتخابياً لها. فلم تعد تطالب بالخروج من الاتحاد الأوروبي، والتخلّص من اليورو، وصارت تتجنّب المطالبة بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي، وتعلّمت أخذ مسافة من روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين.
في السنوات الأخيرة، ثبت أن شرائح عمالية من الكتلة الناخبة التقليدية لليسار باتت تصوّت للوبن وحزبها. حتى أن ظهور الشعبوي إيريك زيمور وطروحاته العنصرية الشعبوية المتطرّفة، أزال “الشيطنة” عن حزب لوبن وجعله خياراً جمهورياً مقبولاً لكثير من المترّددين في دعم لوبن وتوجّهاتها.
وفق هذا الواقع، ربما يخسر ماكرون رهانه، ويقدّم برلمان فرنسا فريسة سهلة، لم تكن لوبن وحزبها يتوقعان قرب اصطيادها.
وسواءً حصل الحزب اليميني المتطرّف على أغلبية مطلقة تخوّله تشكيل حكومة من دون الارتهان لحلفاء، أم فاز بأغلبية نسبية تجعله يحكم من خلال ائتلاف وتحالف، فإن فرنسا ستُحكم للمرّة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية من اليمين المتطرّف. وإذا ما كان الأمر سبّب وسيسبّب منذ قرار ماكرون توتّراً فرنسياً داخلياً ومخاضاً صعباً للخصوم التاريخيين لـ”أحفاد فيشي”، غير أن الأمر أقلق أوروبا والولايات المتحدة والمنظومة الغربية برمتها.
تزعم لوبن وقادة حزب “التجمع الوطني” أن قرار ماكرون يستجيب لمطالب قديمة، وأن الأمر منطقي بعد “انتصار” الانتخابات الأوروبية. حلّ الحزب في المرتبة الأولى بنسبة تجاوزت 32 في المئة، وتقارب نسبة 40 في المئة إذا أضيفت نتائج أحزاب شعبوية أخرى. جاء حزب “النهضة” الماكروني في المرتبة الثانية بنسبة تتجاوز قليلاً 14 في المئة، ليليهما “إنجاز” بات نادراً للحزب الاشتراكي بتحقيقه المرتبة الثالثة بنسبة تتجاوز قليلاً 13 في المئة. لكن أوساط حزب لوبن تعترف بأنها تفاجأت بقرار ماكرون الذي لم تنتظره أن يأتي قريباً داهماً بهذه السرعة.
سجّل اليمين المتطرّف تقدّماً في الانتخابات الأوروبية في بلدان عدّة. قيل إن أمر هذا التقدّم في ألمانيا صدم البلاد ومستشارها، لكن لم يذهب أحد في هذه البلدان إلى حدّ التفكير بقرار يشبه قرار ماكرون، ولم تفهم هذه البلدان مناورة الرئيس الفرنسي، وربما قد لا تغفر له ذلك. ففرنسا دولة مؤسّسة للاتحاد الأوروبي، وأي تطوّر في مشهدها السياسي ينسحب على بلدان أخرى، ويتداعى مباشرة على حاضر الاتحاد ومستقبله وفلسفة وجوده.
وإذا حكم اليمين المتطرّف الكاره للاتحاد والمعارض للناتو والقريب من بوتين، فإن أعمدة أساسية من أعمدة أوروبا وتشابكها مع الغرب تصبح قيد المراجعة، بعد ثمانية عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأكثر من ثلاثة عقود على زوال الاتحاد السوفياتي.
كل ذلك يجري قبل أشهر من انتخابات في الولايات المتحدة قد تحمل دونالد ترامب، ملهم أحزاب اليمين المتطرّف والتيارات الشعبوية، إلى الرئاسة في بلاده. وإذا عرفنا العلاقة الحميمة التي تجمع بوتين بمارين لوبن وكافة التيارات الشعبوية في أوروبا، سيكون ملتبساً ومعقّداً تخيّل خريطة نظام عالمي جديد قد يساعد حدث فرنسا في تشكّله.