الباص مُتهالِك وفي مؤخرته تجلس بجانبي تَنَكة بنزين خارجيّه موصوله في جثة ماتور مشبوه يَسعُل كل خمس دقائق ويُخرِج سُحب دخانيّه بيضاء كثيفه كفيله باختناقك وهَلاكَك أسرع بكثير من احتراقك بتنكة البنزين!
يَحُد الباص من اليمين غابة من الخيم ومن اليسار لوحة فنيّة من القمامة يكاد يعجز أشهر روّاد الفن التجريدي عن رسم لوحة مثلها، ومن الوسط بِركة من العرق، وطابور من كائنات مُنهَكَه تحاول تعبئة ‘جلانات ميّه حلوة’ وسط نهر من المجاري في مشهد اعتيادي لم يَعُد مَثاراً لشفقة العين التي اعتادت وتعوّدت المشهد أو كما قال الراحل ممدوح عدوان ‘نحن لا نتعوّد يا أبي إلا إذا مات شيء فينا، وتصوَّر حجم ما مات فينا حتى تعوَّدنا على كل ما حولنا!..’
كانت الطريق كفيله بانحناء ظهري وتقوّسُه بعد أن تَخَدَّرَت مؤخرتي التي دخلت في غيبوبة بعد جلوس لساعتين على خشبة حقيرة داخل هيكل الباص البدائي!
المهم وبينما الباص يقف بين الفينة والأخرى لتحميل كائنات حيّة معنا يطل كائن حي على هيئة شاب وسيم أبيض الوجه يقف على عتبة العشرين من العمر وعلى عتبة السبعين بعد الحرب يَعرِض زجاجات صغيرة من المياة المعدنية للبيع ‘ميّه متلجه بشيكل’ صِغَر حجم الزجاجة يساوي أقل بكثير من سعرها لكن العطش كافر، فليس الجوع وحده المُلحد..!
اشتريت وأغلب الركاب زجاجة ماء ورجل ستيني العمر من شدّة الزحمة في الباص وجدّته يجلس في وجهي يَحمِل في يده سيجارة كما لو كان يَحمِل طفل خَداج مولود حديثاً يضعها في فمه ولا يُشعلها ويُتَمتِم في أُذُن صديقه ‘راح أموت يا زلمة مش قادر أوقفُه وسعره كُفر.. كُفر.. السيجارة بـ١٠٠ شيكل ليش يا ربي هيك بصير فينا.. ليش!’
قصف مزاج النّاس عنيف جداً، ولا أمل بإدخال السجائر وانخفاض أسعارها، ولا أمل بفتح المعبر، ولا أمل بوقف الحرب في المدى المنخور، ولا أمل بشيء، حتى أغلب الذين ألتقيهم نَهَشَهُم اليأس والإحباط والعجز كما بدأ مؤخراً ينهشني على غفله، ويبدو أنّ ‘رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ’ القول الفصل في هذا الفصل المرعب من بقايا الحياة في غزّة!
لا حياة طبيعية في غزّة، ولا علاقات اجتماعية سوية الناس تلتقي بعضها صدفة أو صدفة أو تقطع مسافات كبيرة ‘لزيارات عائلية أو مشاوير اضطرارية’ في وسائل نقل بالية وبدائية!
الفرحة ماتت.. شيعناها منذ رأس السّنة الفائتة وحفلة زواج فائته وحفلة تَخَرُّج فائته وعيد الفطر الفائت ورمضان الفائت وعيد الأضحى الفائت والكريسماس الفائت وعيد ميلاد فائت..!!
كل ما في الأمر أن النّاس تفتح جروحها وثيابها وأكلاتها وحياتها وصورها القديمة على الموبايل وتواسي جراحات بعضها، تُعزّي بعضها، تَندُب حظَّها، تَنبُشُ ذكرياتها وأشياءها واشلاءها وشهداءها وتَسردُ أوجاعها التي تبدأ ولا تنتهي إلا مع قصف فجائي وهروب اضطراري يَهرُب فيه الكلام من الكلام ويَهرُب فيه اللقاء إلى العزاء!
حتى الذهاب للبحر لم يعد من باب الاستجمام أو ‘الطَشّه’ أو الفُسحَه، هو مَحض استحمام وغسيل ومَحض هروب من الخيبه!
على طول الطريق الساحلي يلفت شَعرَك انتشار ‘صالونات حلاقة’ في خيم لا علاقة لها بالصالونات ولا بالحلاقة، والغريب أن النّاس مازالت تَحلِق في غزّة حتى بعد أن حلق العالم لهم!
المختبرات الطبية هي الأخرى في الخيم، والفحوصات فيها متطورة وأسهل بكثير من المختبرات الحديثة فالفيروس يكون بانتظارك والجرثومة تقوم باستقبالك على أوسخ وجه تحتضنهم وتستلمهم مباشرة دون حاجتك لطباعة نتائج التحليل!
الصيدليات على قارعة الطريق، وأكثر ما لفت انتباهي ليس الأدوية التي تُباع دون رقابة وتحت أشعة الشمس، بقدر ما لفتني طفل بائس أشحب الوجه يبيع بعض أشرطة الاكامول داخل كرتونة من كراتين المساعدات وإلى جانب الاكامول مُربّعات فضيّه تلمع مع الشمس عرفتها من أول نظرة وقررت أن أستهبل كالعادة وأسأل الطفل ‘شو هاد!’
فأخبرني أنها ‘بلالين للبيع..’ ‘التلاتة باتنين شيكل..’ ابتسمت وابتسم الطفل واشتريت ثلاثة منها لا لشيء سوى لتوثيق الحدث، وتفاجأت أنها مُنتشرة في الشوارع وأن ‘البلّون’ على حد وصف الصغير أو ‘الكوندوم’ كما يخجل البعض من اسمه يأتي في المساعدات التي تصل الى غزّة وكأنّها محاولة خبيثه لوأد الصراع الديمغرافي المحظور ممارسته أصلاً داخل حدود الخيمة!
المهم في نهاية الرحلة مؤخرتي تَحَرَّرت بعد أن تَخَدَّرَت، وسيدة أربعينيّة كاد يقع منها طفلها الذي تحمله وزوجها يصرخ عليها بصوت عالي ‘ولك انتبهي الله يعمي قلبك إوعي كيس الخضرة.. إوعي الملوخية تِقَع!!’
في الخلفية صوت راديو الباص ينقل الأخبار عن إحدى الاذاعات التي تنقل عن إحدى الفضائيات أن قصفاً عنيفاً يستهدف خيام النازحين وأن قوات الإحتلال تشق طريق جديد بين معبر رفح ومعبر كرم أبو سالم وجميع من في الباص ينظر إلى شحن ‘نُص نقل’ مُسرِع كاد من سرعته يصطدم بنا وزاموره يكاد لا يتوقف عن البكاء وثلاثة شبان داخله في وضعية الوقوف يحيطون برابع يضغط على صدر سيدة ترتدي جلابيه مُزركَشَه مُمَدَّدَة داخل الشحن وصرخته تمتد على طول ساحل غزّة ‘بسرعةعةعةعةعة..’ الشحن مُسرع جداً وصوت الشاب ينخفض جداً.. جداً ولم يعد يسمعنا أحد!
جوالي يرن.. التهيت بالمكالمة، والتهى الركاب بدفع الأُجرة، والتهى السائق بلم الأُجرة والتهى كل شيء..!
فلسطين / غزّة / خانيونس / رفح / المواصي / الخيمة / دير البلح / المجهول!.. #خيمة_تخيبنا