آراءمجتمع

عيد الأضحى وإنقلاب الرمزي

إن عيد الأضحى أيضا هو حالة ثأر اجتماعي تظهر فيه الميول اللحمية التي قمعتها على مدار السنة حالة النباتية المفروضة..

خلف تكرار السؤال حول الأضحية وربطها بسؤال التقدم والتّأخّر، جمود في الفهم وجحود في المعنى. هل هو موضوع نقاش وصراع أم هو ظاهرة راسخة في الاجتماع؟ مرة أخرى سنخطئ استيعاب طقس الأضحية إن تجاوزنا شروط القراءة المركّبة.

لا شيء من ظواهر الاجتماع الديني أو الثقافي عموما، إن طال عليها الأمد، ستبقى في حدود العقل أو الدّين نفسه.

إنّ الظاهرة الدينية متى تحوّلت إلى طقس رمزي في حياة البشر، ازدادت رسوخا في السيكولوجيا الجماعية وأخذت أبعادا لا ماسك لها، ذلك لأنّ التمثّلات الدينية كسائر التّمثّلات الثقافية والاجتماعية، إن هي انفكت عما جُعلت له، تاهت كالأيديولوجيا في برِّية من التضليل والمفارقة.

من المسؤول يا ترى عن تعقّد الظاهر السوسيو-دينية؟ إن قلنا هو الجهل، فمن يغدّي هذا الجهل؟ إن كنّا سنبسّط الأمور ونتحدّث عن جهل بسيط، فهذا يزيد الأمر التباسا، فالجهل ها هنا مركّب من كلّ الجهات.

بالنسبة لعالم الاجتماع، لا يمكنه أن يصدر أحكام قيمة حول طقس راسخ في التاريخ والاجتماع، بل تثيره الظاهرة بأبعادها وطبيعة الحدث وإدارة الطقس. عالم الاجتماع لا يدين مجتمعا لأسباب تتعلق بالطقوس، من منطلق أنّه لا يخلو مجتمع تقليدي أو حديث من غرائب الطقوس وأبهمها. إدانة مجتمع أو طقس، تحجب النظر في الوظيفة الاجتماعية للطقس، والشروط الذي يغدو فيها الطقس ظاهرة مفارقة.

ما الذي يجعل عيد الأضحى قضية مُلفتة للنظر؟

إنّها مفارقته، حيث وُجد الطقس في شروط كونية، باتت الأضحية موضوع أزمة اجتماعية ومثار أزمة رمزية. كُلفة الأضحية اجتماعية، وتراجع رمزية الأضحية في مجتمع مادّي. لقد بدأ خروج الأضحية من فلسفتها الدينية بفعل الاختزال، اختزال العيد في الذبيحة، مع أنّ الدين يعفي المكلف من الأضحية في حالة الفقر، ويبقي على العيد كطقس بلا أضحية.

لكن أسبابا اجتماعية ساهمت في ذلك، أي التحوّل الطارئ على الرمزي، من مفهوم التضحية إلى التراتبية الاجتماعية.

انقلاب التضحية يجعل المُكلف الشرعي يُضحّي برصيده المادي من أجل الأضحية، الرمزية الاجتماعية تجاوزت الديني، لكنها تشبّتت به كذريعة، تخريجة دينية ذات أهداف اجتماعية، يصبح صاحب الأضحية نفسه قربانا لتحقيق الزُّلفى الاجتماعية والتعويض الطبقي.

إنّ الصراع المرير لحماية الرمزية الاجتماعية هي حالة كفاح سوسيو-رمزي تعود مرة أخرى إلى تحقيق أهداف سوسيو-مادّية. فالرمزية تجعل صاحب الأضحية المميزة يحظى بجميع الآثار والمصالح الاجتماعية.

فالمصلحة الاجتماعية في مفهومها التقليدي حاضرة في هذه المظاهر التي تبدو لنا مفارقة. إنّ المُضحِّي يشتري موقعية اجتماعية في شروط مفعمة بالتهميش.

إنّ عدد رؤوس الغنم التي يجهز عليها الفقراء في عيد الأضحى، ليس لأنّ الأغنياء لا يضحون، بل لأنّ شريحة الفقراء هي الأغلب، أقصد الطبقة الوسطى باعتبارها طبقة فقيرة فوق خطّ الفقر بمقدار خفيف أو على تخومه أو أخفض بقليل، أجل، إن عدد تلك الرؤوس مقارنة مع مجتمعات متقدمة لا يعادل ما يذبح لديها خلال يوم أو بضعة أيام.

إن عيد الأضحى أيضا هو حالة ثأر اجتماعي تظهر فيه الميول اللحمية التي قمعتها على مدار السنة حالة النباتية المفروضة. إنّه اليوم الذي ينتشي فيه الفقراء ويجربون لأوّل مرّة حالة الشبع، حيث الشبع ليس روتينا يوميا بل طقسا سنويّا، تضمنه القوة الروحية للدين.

المجتمعات بما فيها التقليدية تعرف كيف تحتال على الطّقس، فهي في نهاية المطاف تنهي مهمّتها بنجاح، مهما فعلت اليد الخفية في جعل تكلفة الأضحية مرتفعة، هناك يد خفية تقليدية تحتوي الوضع. ففي يوم العيد تتصاعد أعمدة الدخان، وتمتلئ الدنيا ثُغاءً.

لا يحتاج الفقراء إلى من يذكرهم بأنّ العيد في حدود الدين والعقل لا يفرض تكلفة تفوق القدرة، بل هو متشبّث بالبعد الرمزي المتحول اجتماعيا، في تحدّي ليس غايته الخروف، بل النسق الاجتماعي الحديث، فمهما بدى الطّقس قديما، فإنّه يأخذ من شروط الاجتماع الحديث الكثير من عناصر التّحوّل.

سيكون من البساطة الاستخفاف بالظاهرة كما لو كانت سلوكا جماعيا غبيّا، لكنها تعكس اندماجا للقديم في شروط الحديث، وعلينا أيضا أن لا ننسى أنّ المقارنة هنا بين مجتمعات مختلفة هو تضليل، لأنّ المجتمعات لا تتوقف في مسار إعادة إنتاج طقوسها في شروط مختلفة.

فما يبدو ثابتا في طقس الأضحية هو ظاهرها، لكن محتواها مندمج في شروط مجتمع البورجوازية الناشئة التي لا زالت تحمل عناصر الإقطاع، ففي نهاية المطاف لا أحد مستعد للأضحية الإبراهيمية الخالصة، هناك فقط قدر من ظاهرها يتمثله مجتمع الفقر حيث الرمزي يمثّل التعويض الجماعي، طقس الشّبع وتقاسم القدّيد، كما أنّ لا أحد مستعدّ للتضحية من أجل الحداثة التي تبدو خارج موضوعا عن هذا الإشكال، لأنّ هناك من يطلب المطلب نفسه عبر سؤال التنوير، الدفاع عن موقف سوسيو-رمزي ولو بالتضليل.

لا زال طقس الأضحية يتطلّب مقاربة أبعد من الإستشكالات التبسيطية التي باتت هي الأخرى طقسا على مذبح افتراضي بدائي من حيث بساطة المقاربة وخواء المحتوى الابستيمولوجي.

هناك أيضا يتجلى انقلاب الرمزي، الاستقواء بالخطاب الرمزي للحداثة كمهرب اجتماعي وزلفى طبقية ومغالبة أيديولوجية.

https://anbaaexpress.ma/ai6yj

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى