توافد جمع غفير على قصر المؤتمرات بالعيون لمشاهدة فيلم طويل لشاب صحراوي شغوف بالسينما وصناعتها واتساع قضاياها، وكنت من الذين نالوا شرف الحضور باقتراح من صديق قلما يغفل عن اخباري وترغيبي في الحضور والمساهمة في أحداث ونشاطات تشكل فسيفساء الفعل الثقافي والحقوقي والاجتماعي بمدينتنا المضيافة.
أثناء اقترابنا من فضاء العرض، لاحظنا حركية غير معتادة لكافة ألوان الطيف المجتمعي، من شيوخ وأعيان ومثقفين وأطر ونساء وطلبة وأعضاء مجتمع مدني، خلت معها أن الأمر يتعلق بحدث رسمي تقف وراء تنظيمه جهات ومؤسسات رسمية، لأتفاجأ ومن معي بأن المشهد الرئيس في القصة يتعلق بعرض فيلم سينمائي يروي قصة عائلة صحراوية تشظت هويتها لهويات متناقضة المنطلقات والأهداف بفعل مكر التاريخ وتداخل عوامل سياسية خارجية، فتكت بمنظومة القيم المحلية المنبنية على تماسك الأسرة وإجماعها على مسلمات من قبيل الوحدة في الرأي والمصير المشترك وتداول الأفكار ومناقشتها بهدوء تغليبا للرأي الرصين.
أحداث تسارعت لتغييب منطق التفكير لدينا ووحدة المصير، واستبداله بهرولة كل واحد منا للنجاة بجلده في إنكار مطلق لقيم ومحددات نشأتنا وتطورنا وتفاعلنا داخل بيئتنا، وقد لا تستند تلك القرارات السريعة على رؤية وتفكير عقلاني، وتتلبسها العاطفة العمياء وجنون الشباب القاتل المفضي حتما الى الضياع والموت والانسلاخ من القيم الجامعة التي آمنا بها داخل بيت العائلة المؤسس على التآزر والتلاحم في السراء والضراء مهما اختلفت مواقفنا اتجاه أي عارض قد يرهن حاضرنا ومستقبلنا وتطلعاتنا لأجيال.
وقد لا أرى منطقا في جعل أفراد أسرة واحدة يختلفون في طرائق مواجهة مصير محتوم، سيرهن اجتماعهم طيلة حياتهم، سوى عامل المفاجئة والصدمة القوية التي اغتصبت ملكة التفكير والتريث لدينا وجعلت افراد مجتمعنا الواحد شيعا تتقاسمها أهواء السياسة المتقلبة في سياقات مضطربة، وشجعت على ذلك التشظي هشاشة تماسكنا ومنعتنا، فتفرقت بنا السبل جراء ذلك.
الرجل البالغ أعمر والشاب الطموح حماد والأخت الحالمة السالكة، نموذج لمأساة عائلة صحراوية وجدت نفسها أمام صراع مثل، لم تستطع معه تغليب مصلحتها في الحفاظ على نعمة الاتحاد واللحمة ضمانا للبقاء، فانقسمت الى كيانات في لحظة خاطفة، لم يمهلها القدر أن تختلي بنفسها لتمعن النظر والتفكير في مصيرها، بالرغم من تواتر نصائح والدهم ودعوات الأم المكافحة ورجائها بلم الشمل والتضرع بالوقاية والحماية من أهوال وشرور الحروب التي لا تبقي ولا تذر إن اشتعل فتيلها.
إن هذه العقلية الانقسامية ما كانت لتستنبت وتنمو، دون حضور فاعلين إقليميين ودوليين هدفهم نهب ثروات المنطقة باللجوء إلى إثارة الصراعات والنعرات القبائلية المقيتة، وتأليب المحليين على ذويهم ونظامهم القيمي وامتدادهم الهوياتي وارتباطهم بالمركز، وتنفيذ معاونين محليين وجدوا أنفسهم متورطين في عمليات التقسيم والتفتيت لمجتمعهم وثقافتهم وكينونتهم وحضورهم الثقافي والروحي والسياسي بالمغرب.
غير أن كل تلك العوامل العدائية لارتباطات أسرة الإخوة الثلاثة ووجدانها وحنينها الى استحضار حاجتها لتكريس السلم والأمن والاستقرار والرغبة في النمو والتطور والامتداد، لم تأت أكلها، بسبب فعالية وتجذر القيم التي تلقونها في الصغر من أبيهم وأمهم في أحاديث المساء الماتعة والمليئة بالدروس والعبر.
فدعاء الأم المريضة بلم الشمل ونبذ الصراعات والحروب وإحلال السلم والأمن بين بني الإنسان، بالإضافة الى توسل الأب ورجائه لأبنائه بصون اتحادهم وتلاحمهم، باعتباره السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة العائلة ولم شملها وتجنيبها الأخطار، كان وقودا مشتعلا في النفوس، كلما ضاق بها الأفق واشتدت عليها النوائب.
هذه الثنائيات المتضادة بين قيم الخير والشر والتلاحم والتشرذم وخدمة العائلة والحنين لها مقابل خدمة التنظيم الذي لا يولي أي بال لمؤسسة الأسرة، خلقت حالة من القلق الفكري في المصير والماضي والحاضر والمستقبل، والرغبة القوية في لم الشمل، والابتعاد كل لحظة تفكير عن واقع مفروض على السالكة في المخيمات، في كل متعلقات حياتها، من زواج وتنظيم أسرة واستقرار وقهر ومحاولة تزويج قسري وتحكم طاغ على مختلف مناحي الحياة القاسية أصلا، لا يضاهيه سوى شوق وحنين الشاب المتعلم حماد، الذي تحدى حواجز اللغة والتقاليد والفوارق الكبيرة في نمط العيش، للاجتماع بأفراد أسرته الذين ضاقت به الأرض في سياق خانق، لم يترك لهم فرصة للتأمل.
ويسترجع الفيلم قوة إرادة ذلك الشاب وطموحه الجامح في الترقي الاجتماعي والنجاح بالرغم من أحكام القيمة التي ظلت تطارده بحكم الخلفية الثقافية البدوية، وإصراره وتفكيره المستمر في أسرته، بالرغم مما توفر له من رغد العيش وتعدد الوسائل والفرص.
جاءت القصة معبرة عن مأساة كل منا في تلك الظروف الحالكة التي مست كينونتنا وأسرنا وفضائنا الثقافي والاجتماعي ولحمته، وهي دعوة مفتوحة لحفظ الذاكرة وإنعاشها لبدء المؤرخين والمثقفين والكتاب والفنانين لكتابة تاريخ منطقتنا بما يستحق من التزام وجدية وتحر للحقيقة الصادمة التي لا زلنا نجتر اثارها المدمرة على مجتمعنا، كما يقدم الفيلم عملية تصحيحية بالصوت والصورة لحملات من التضليل والأخبار الزائفة حول النزاع، جذبت شبانا كثر للقاء حتفهم في سياقات مظلمة، وسلبتهم فرصة المساهمة في تنمية وتطوير مجتمعهم وجندتهم لخدمة قوى إقليمية لم ترد أبدا خيرا للصحراويين.
إن مشاهد إطلاق النار من قبل عناصر أمنية بالمخيمات مع سبق إصرار وترصد وإرسال طلقات تحذيرية من قبل فرقة عسكرية مغربية في مركز المراقبة المتقدم بمنطقة المحبس، ليست إبداعا تخيليا للمخرج ليبين فداحة ما وقع بتندوف، ولا هي مشاهد تم تركيبها في استديوهات متخصصة لإضفاء المزيد من عناصر التهويل على الوقائع المراد تقديمها للمشاهد، بل هي ترجمة واقعية لما حدث، لتلمس وجع الفقد بأرض لحمادة وحرارة جمع الشمل والتلاحم والالتقاء بتضاريس الصحراء الشاسعة بعد فراق طويل، جسدته دعوات ورجاء والدة الإخوان الثلاثة، وحسن تلقين الوالد لفلذات كبده، وإصرار الإخوة على تغليب رابطة الدعم والعقل والانتماء الى الوطن الحاضن، بالرغم مما قاسوه في فضاءات مختلفة ومتناقضة.
ولعل المؤكد في فيلم “صحاري سلم وسعى”، أنه إبداع خادم للحقيقة بامتياز، ويعبر عن مأساة ومعاناة الالاف من الصحراويين بسبب هذا النزاع المفتعل، الذي رهن حياة الكثير من الصحراويين ولا يزال، والأكثر إيلاما في هذا السرد الواقعي، تداخل عناصر القصة وتماهيها مع سيرة المخرج المبدع، الذي ينحدر من الصحراء لأب عايش أحداث التشرذم وأم من أصول صحراوية احتضنت الوالد في سياق كان فيه مشوش البال ومتوجسا مما سيأتي بسبب حالة التمزق الذي وقع لعائلته جراء اندلاع حرب عبثية، ألغت كل سبل الاتصال والالتقاء بينه وبين إخوته وأهله وحاضنته الاجتماعية لسنوات.
ومسك الختام، أن جودة السيناريو والتصوير والإخراج والتحرير والمونتاج والأداء، بما تتطلب تلك الأدوات من مغامرة وإبداع وتفان لسد أي ثغرات قد تضعف جودة الفيلم شكلا ومضمونا، ما هي إلا تجليات لإيمان عميق لدى المخرج لعرض قصته المؤلمة للمتلقي في فضاءات أرحب، في عملية تحسيسية لكل محب للسلام والأمن والاستقرار بأن المساهمة في تشتيت المجتمعات وتشرذم لبناتها هي بمثابة عملية قتل جماعي للجوانب العاطفية والحسية والهوياتية والإنسانية للأفراد والجماعات، وأن إعادة رتق ما تم تمزيقه تتطلب مجهودات جسام وأثمان باهظة ستبقى جروحا نازفة في نفسيتنا وكينونتنا وستشكل سجنا مفتوحا لآمالنا وتطلعاتنا لمستقبل أفضل.