توطئة
بسبب ضيق الوقت وقلّة المرجعيات لا سيما المتعلقة بالرواية التاريخية في الأدب العربي عامة والسوداني خاصة فسوف أُرجئ التفصيل الملحق بأمثلته إلى الجزء الثاني في عدد المدائن بوست رقم 161. ولذلك فنرجو منكم المعذرة.
الأدب كمرآة لرقي الشعوب وأداة للتغيير الاجتماعي
الأدب هو فن ومرآة حقيقية لرقي الشعوب وتطورها، فهو يعكس تطور بنية الخيال والنظرة للحياة والنقد الذاتي والمراجعات. والأديب هو الإنسان الذي يبحث عن مدينة فاضلة قد لا تتحقق، لكنه ينافح من أجل القيم الجميلة والمعاني العميقة، فهذا هو جوهر الرسالة الأدبية، إذ يسهم الأدب في تغذية الوعي وعقلنة المجتمعات وتحفيزها للتخييل المستقبلي. كلنا يعلم ما للأدب من تعاريف متباينة وأهميات قصوى لا يمكن حصرها في سياق هذا المقال ولكن دعونا نلخّص عصارتها في عجالة: الأدب هو بمثابة مقياس للهزات الاجتماعية، مثل السيزموغراف الذي يقيس الهزات الأرضية.
فهو أداة تخلق التطور الاجتماعي وتساهم في بناء فضاءات وعي جديدة تنقل الإنسان من مرحلة إلى أخرى. عبر التاريخ؛ لم تنهض الحضارات إلا على جسور المعرفة والعلم، وعلى رأسها الفنون والآداب. التنوير في أوروبا استند إلى الأرضية التي صنعتها عصور النهضة والحضارة اليونانية من قبلها.
فعلى مرّ العصور وفي صفحات التاريخ العديدة لم تنهض حضارة في بلد إلا على جسور المعرفة والعلم، وعلى رأسها الفنون والآداب. لنأخذ مثالاً من تاريخ الأدب العالمي، حيث أسهمت الأعمال الأدبية لشكسبير في عصر النهضة الأوروبية في تشكيل الوعي الجمعي وإعادة تعريف القيم الإنسانية.
وفي الأدب العربي، نجد أعمال نجيب محفوظ التي سلطت الضوء على قضايا اجتماعية وسياسية في مصر، محققة بذلك تأثيرًا عميقًا على القراء والمجتمع.
فالأدب يا سادتي يبصر المسارات ويعدلها بحثًا عن الأفضل، فالخيال الإبداعي يقوم على رؤية الشر قبل الخير، والقبح قبل الجمال. فمن تشخيص الشيطان يولد الملاك الجميل، أو من تشخيص الغول تنبجس فاطمة السمحة.
فالحصة الأدبية التراكمية تعطي مؤشرًا على التقدم في كل المجتمعات، لكن ماذا عن البلدان العربية، وحتى في السودان؟ يبقى الإنتاج المعرفي ضعيفًا هزيلاً لا يجاري حتى ما تنتجه دولة أوربية واحدة. حيث نجد أن عدد الكتب الصادرة سنويًا قليل قياسًا لما يجب أن يكون عليه، وهذا يؤثر على إحداث التثوير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي اللازم لنقل المجتمع إلى فضاء معرفي وإنساني جديد. لذلك فالأدب ما هو إلا فن سامٍ، يعكس بوضوح رقي الشعوب وتطورها.
إنه المقياس الحقيقي لتقدم الحضارات، حيث يبرز من خلاله تطور بنية الخيال والنظرة النقدية للحياة وهو الأداة التي يستخدمها الأديب. هذا هو جوهر الرسالة الأدبية، فهي تهدف إلى تغذية الوعي وعقلنة المجتمعات وتحفيزها للتخييل المستقبلي.
الإنتاج الأدبي قد يكون فيه الصالح والطالح، لكن التاريخ يغربل الأفكار وينتصر للأجدر بالبقاء. لا فكرة ولا كتاب يصلحان للأبد؛ كل فكرة أو كتاب وليدة عصرها وسياقها الثقافي والتاريخي. قيم إنسانية خالدة كالتسامح والتعايش والمحبة هي التي تبقى، وتحملها الكتب التي تعيش لقرون طويلة، مثل الملاحم الإنسانية القديمة والمدونات المقدسة.
أما حال الأمة العربية، فنحن نعاني من ضعف البنى الذهنية التي تقود إلى التحرر والتقدم. لدينا إشكالات تتعلق بطريقة التفكير والنقد الاجتماعي والبناء الخلّاق والخيال العلمي والمعرفي. التراث لا يزال يهيمن على المعاصر، ولهذا فإن طريق الإصلاح يتطلب جهدًا كبيرًا للاندماج في اللحظة الإنسانية والعالمية الراهنة. رغم أن العالم يتطلب مراجعة في كثير من الأنساق الإنسانية، إلا أن علينا إدراك أول الطريق نحو التقدم.
السردية المتميزة في الأدب: قراءة نقدية لرواية زياد مبارك
إذا بدأنا في تفصيل ماهية السردية المتميزة، لاحتجنا لمؤلفات عديدة. أحاول هنا أن أضع بعض التفاصيل والآراء الشخصية التي أعتبرها مقياسًا، كما السيزموغراف، لمعرفة ما إذا كانت الرواية جيدة في جوهرها وإعمالها أم غير ذلك؛ أقصد أن تكون انطباعية أو سطحية تفتقد لأساسيات بناء السردية الأدبية داخلها.
في هذا السياق النقدي، سآخذ رواية الأديب زياد مبارك كأنموذج في البناء المتميز في مجال السردية التاريخية والتأريخية على حد سواء. يجدر بالذكر أنها استطاعت أن تكون من بين الدرر التي اختيرت في القائمة الطويلة لجائزة كتارا. فالطريق معبّد لهذا النمط الراقي المتميز من الروايات التاريخية لأنها لا تعتمد على الحسّ الذاتي فحسب، بل تذهب إلى آفاق بعيدة في التخييل وربط الحاضر بالماضي، أو الآجل بالعاجل، في معالجة فنية بديعة تجعل من الدخول إلى حناياها ماتعًا وشائقًا وملهمًا إلى أبعد الحدود.
الأديب زياد مبارك، الذي هو في الأصل مهندس كهربائي، لم تكن له علاقة بالأدب من قريب أو بعيد، ولم يكن قارئًا نهمًا في بدايته. لكنه، وحسب استطلاعي وبحثي عنه، صنع نفسه بنفسه فأسس دار نشر عندليب بمحض إرادته ولم تأت هذه الخطوة من محض الصدفة أو بالأحرى من العدم أو اللاشيء. فنجده، في مسيرته الدؤوبة، رغم كل العقبات التي كان آخرها التشرد والتشظي في خضم الحرب الأهلية بالسودان، قد بنى عالمه الأدبيّ بإتقان وذلك عبر القراءة الثاقبة المستنيرة. ترك زياد مبارك الكهرباء وعللها وأخطارها غير آسفٍ أو ناقمٍ على ذلك، لكن الكهرباء الملعونة لم تتركه إذ لسعته ثمّت ولى وجهه، هائماً باحثاً مصطلياً بنيران المجوس في روايته الأخيرة، والتي سبقتها روايتان كتبهما فقط كي يشذب قلمه، يدرِّب أدواته ويخلق أجواء تنداح فيها الشخوص وتتأرجح، فتراها تارة طائرة وتارة أخرى قابعة في مستنقعها راكدة كما الماء الركود.
ولم ينح عن دأبه بل “شمّر عن ريشتيه” ليرتقي بشخوصه إلى عالم الخيال المتأرجح والتخييل البارع الخلّاق: سردت فبرعت فأتقنت فنجحت يا زياد!
سرديّة زياد مبارك في رواية جهنگشاي في مرآة الرواية العالمية
في نظري، أصبح الأديب زياد مبارك متميزًا في سرديته عندما استطاع في روايته جهنگشاي من دمج عدة عناصر أساسية بشكل مبهر ومتفرد. انبثقت هذه العناصر دون أدنى شك من تجاربه السابقة التي جعلته يسيطر على أدواته الفنية، مما جعله يخلق تجربة قراءة مميزة ومثيرة.
وكما يقيس السيزموغراف الهزات الأرضية ويحدد قوتها وموقعها، أزعم أنني باستخدام هذه العناصر كمقياس لرصد جودة السردية الأدبية وعمق تأثيرها، وجدت روايته “جهنكشاي” مثيرة وصادقة في رصدها لتحركات الأحداث التاريخية في حقبة الصراع ببلاد فارس. والقارئ المتفحص فيها يجد أن عناصر التحليل النفسي للشخصيات قد يعد أحد أبرز ركائز الإبداع في “جهنگشاي” بما أنّه يكشف عن دواخل الشخصيات وأفكارها وأحاسيسها، مما يجعلها واقعية وإنسانية بشكل مدهش.
إنّ هذه القدرة على الغوص في النفس البشرية هكذا ملكة ربانية تنبئ على لبنات الإحساس المفرط، الموهبة والقراءة المستنيرة. وقد تظهر هذه الملكة جليًّا أيضاً في رواية “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، حيث يتعمق بروست في تحليل مشاعر وأفكار شخصياته عبر الزمن، فتتجلى عبقريته في استخدامه للغة أدبية غنية ومؤثرة، تجمع بين الوصف البسيط والجميل، والاستعارات الغنية التي تدعم القارئ في استحضار الهياكل، كما هي الحال على خشبة المسرح.
لعمري فإن هذا الأسلوب يعزز بشدّة من تأثير الرواية على القارئ، ويخلق توازناً بين جمال الأسلوب ووضوح السرد.
ومن النماذج الفريدة في الأدب العربي أجد أن خطاب نجيب محفوظ في الثلاثية يتميز أيضاً بهذا الجمع بين البساطة والجمال، مما يجعل الأحداث والشخصيات أكثر تأثيرًا وإلهامًا.
وهناك أيضا وجه آخر مهم في بناء الرواية التاريخية ألا وهو البعد الفلسفي للشخوص. لا يكتفي زياد مبارك بالتأملات العميقة والمنطق الكارتيزي في جهنگشاي عندما يسرد الأحداث، بل يستخدم بين هذا وذاك وبذكاء ثاقب، الرواية كمنصة للتأمل في قضايانا الملحة، الآنية القابضة على أنفسنا في كل لمحة ونفس. قضايا تؤرقنا مثل الحرب وأخرى نتوق لها مثل السلام والحب وثالثة نخافها مثل الموت في الترهات الغابرة وتحت قباب أجهزة الأمنوقراطيّة.
من هذا المنطلق نجد أن تلكم التأملات تضفي بصورة أساسية عمقًا فكريًا على الرواية ومن ثمّ بعدًا اجتماعيًا فتجعل منها، إن لم أغال، دراسة فلسفية وإنسانية جديرة بأن نقف عندها، لماذا؟ لأننا نرى أنفسنا فيها بصورة أو بأخرى، وقد نجد منتجعات تأمليّة حول معانٍ هي مفاتيح في هذا العصر مثل الظلم الاجتماعي من جهة والنضال من جهة أخرى، وكل هذه العناصر جديرة بأن تضيف إلى الرواية وسرديتها التاريخية، كما في جهنگشاي، بعدًا فلسفيًا واجتماعيًا يجعل منها وثيقة تاريخية تثري مكتباتنا ومن قبل عقولنا التي عشش عليها السهل اللاممتنع.
ونجد تأملات حول الظلم الاجتماعي والنضال، مما يضيف بعداً فلسفياً إلى السرد الأدبي.
تنقلنا الأحداث في جهنگشاي بين الفترات الزمنية المختلفة فيضفي ذلك ديناميكية للسرد ويعزز من تفاعل القارئ مع تطور الشخصيات والأحداث عبر الزمن، هذه البنية الزمنية نجدها أيضاً في رواية “مئة عام من العزلة” لماركيز، حيث يمتد السرد عبر أجيال متعددة، مما يخلق شعورًا بالاستمرارية والتغيير.
إذا انتقلنا إلى الأدب العالمي عمومًا، نجد أن العناصر المميزة في سرد زياد مبارك تتقاطع مع عناصر مماثلة في روايات عظيمة. على سبيل المثال، في “الحرب والسلام” لليو تولستوي، ومن خلال هذا المثال المميز نرى كيف أن الرواية تمزج ببراعة بين الأحداث التاريخية والخيال الأدبي، متتبعةً حياة عدة شخصيات خلال الحروب النابليونية. تولستوي يستخدم التفاصيل التاريخية الدقيقة والتطورات الشخصية المعقدة ليقدم سردًا شاملًا ومؤثرًا.
وقد أشاد النقاد في غير محل بتولستوي لإتقانه الوصف الدقيق للأحداث التاريخية والشخصيات. ولذلك تُعتبر “الحرب والسلام” مثالاً رائعاً على كيفية دمج الخيال مع التاريخ بطرق تجعل الأحداث تبدو واقعية وملموسة. هذا الاهتمام بالتفاصيل يُظهر حياة الأرستقراطية الروسية، المعارك، والعادات اليومية بشكل حيوي. مثل هذا المستوى من التفاصيل نجده أيضاً في رواية “اسم الوردة” لأومبرتو إكو، حيث يعيد الكاتب بناء أجواء العصور الوسطى بدقة متناهية.
شخصيات مثل بيير بيزوخوف، أندريه بولكونسكي، وناتاشا روستوف تظهر بعمق تنوع الطباع والأهداف البشرية، مما يضفي على الرواية بُعدًا إنسانيًا عميقًا. على صعيد آخر نجد في الأدب العربي هذا التعقيد، إن صحّ التعبير أو لنقل السرد المزجي أو التشابكي، في ثلاثية نجيب محفوظ، حيث تتجلى شخصيات مثل السيد أحمد عبد الجواد وأبنائه في صراعهم مع التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر. استخدم تولستوي أسلوب السرد متعدد الزوايا، مقدماً الأحداث من وجهات نظر مختلفة.
هذا الأسلوب يعزز فهم القارئ للتعقيدات التاريخية والشخصية، ويخلق تجربة قراءة غنية ومشوقة. وتقدم الثلاثية صورة حية ومعقدة للحياة في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين إذ يستخدم محفوظ فيها الشخصيات والأحداث التاريخية لنسج قصة تمس الأعماق، مستعرضًا التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية بعمق وصدق.
نفس الأمر ينطبق على “مئة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز، حيث استخدم سرداً متشابكاً مما يضفي عمقًا تاريخيًا وثقافيًا على الرواية، حيث يتم دمج الواقع والخيال بطريقة فريدة تعكس تعقيدات التاريخ الشخصي والجماعي لعائلة بوينديا. ماركيز يخلق عالمًا غنيًا ومليئًا بالتفاصيل التي تجذب القارئ وتثير خياله، مما يجعل الرواية تترك أثرًا عميقًا ومستدامًا.
خاتمة
الأدب هو مرآة تعكس رقي الشعوب وتطورها. والأدب الجيد يبصر المسارات ويعدلها بحثًا عن الأفضل، والخيال الإبداعي يقوم على رؤية التشاؤم قبل التفاؤل، “والشناة قبل الحلاة”، من تشخيص “الغول تولد فاطمة السمحاء”.
فالأدب، سواء كان من زياد مبارك أو تولستوي أو ماركيز أو محفوظ، يقدم لنا فرصة لفهم العالم بشكل أعمق، ويخلق تجربة قراءة مميزة ومثيرة تبقى في الذاكرة. فخلاصة القول في هذا السياق أن الأدب ليس فقط انعكاسًا لرقي الشعوب، بل هو أيضًا أداة قوية للتغيير الاجتماعي.
إنه يفتح آفاقًا جديدة للفكر والخيال، ويعمل على تحويل المجتمعات نحو الأفضل. الأدب يقيس قوة الأفكار والثورات الاجتماعية، ويحدد المسارات نحو مستقبل أكثر ازدهارًا. لذلك فنحن نجد أن الروايات المتميزة مثل “جهنگشاي” لزياد مبارك، و”الحرب والسلام” لتولستوي، و”مئة عام من العزلة” لماركيز، و”ثلاثية القاهرة” لمحفوظ، هي نماذج حية لقوة الأدب في التأثير والتغيير والإلهام.
تعليق واحد