آراءثقافة

التاريخ الإنساني الحافل بالعذاب

بقي السجل الأسود للكتب الممنوعة في الكنيسة ساري المفعول حتى الخمسينات من القرن العشرين قبل أن يفتح الفاتيكان الباب للاطلاع والنقد لـ 4500 ملف سري تعود لمحاكم التفتيش واستخبارات الكنيسة

في عام 249 م هجم الرعاع على ابنة عضو المجلس البلدي في مدينة الإسكندرية لأنها كانت تحمل أفكاراً خطيرة بها فحطموا أسنانها ثم جمعوا حطباً أوقدوا به ناراً عظيمة ثم طلبوا منها التوبة عن الأفكار التي تعتنقها وإلا كان مصيرها النار. فألقت المرأة نفسها في النار فاستراحت وأراحت.

ووقف القوم يتأملونها بمتعة وهي تشوى ببطء على النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بهذه الشهيدة شهود. روى هذه الواقعة المؤرخ (أويسبيوس Eusebius) في كتاب (تاريخ الطب) وبعد استشهادها بعشرة قرون في القرن الثالث عشر للميلاد بدأت شخصيتها الثقافية تنتشر عبر أوربا وفي عام 1634م أصبحت (أبولونيا Apollonia) قديسة يتشفع بها الناس لمعالجة وجع الأسنان؟

هذه القصة ليست الوحيدة في التاريخ الإنساني التي تحكي حماقة الجنس البشري وجدلية (القوة) و(الفكرة). فقد تم افتتاح القرن السابع عشر بنار متوهجة أنارت أفق أوربا حينما أحرق الفيلسوف الإيطالي (جيوردانو برونو) في 17 فبراير من عام 1600م حياً في روما بعد اعتقال مضني دام ثماني سنوات بسبب رأيه الكوسمولوجي عن كون بدون حدود ومجرات لانهائية تتزاحم في الملأ العلوي.

وفي الثالث من نوفمبر 1411 م أُعتقل المصلح الديني (جان هوس JAN HUS) التشيكي وأُخضع لحفلة تحقيق جهنمية من أجل كتاباته وأُدين في 6 يوليو 1415 م بسبب ثلاثين جملة اعتبرت (هرطقة) وحكم بأن يحرق (حياً) ونفذ الحكم في نفس يوم إصداره .

وفي 27 أكتوبر 1553 م أدين الطبيب الأسباني (ميشيل سرفيتوس MICHEL SERVETIOS) مكتشف الدورة الدموية الصغرى بسبب قوله بالتوحيد وتعميد البالغين وكان خلف إصدار الحكم (كالفن) المصلح الديني في سويسرا ولم تشفع له توسلاته في تحويل الحكم إلى الشنق فأُحرق (حياً) ولم يرمش لكالفن جفن.

وفي 21 مارس ـ آذار 1556 م كان المصلح الديني البريطاني (توماس كرامر THOMAS CRAMMER) (أسقف كانتربري) وأول مترجم للإنجيل إلى اللغة الإنكليزية يضبط على آرائه الخطيرة في الإصلاح الديني ويساق إلى المحرقة ليشوى على نار هادئة.

وحسب تقديرات مجلة (در شبيجل) الألمانية فقد أحرق ما بين عامي 1450 – 1750 م مليون امرأة بتهمة السحر. إلى درجة أن يدلي رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا البولوني(كارول فويتايلا KAROL WOJTYLA) يوحنا بولس الثاني (PAUL II) بهذا التصريح:” إن ما حدث في تاريخ الكنيسة عار كبير. كيف يمكن أن تنتهك حقوق الإنسان على هذه الصورة من الوحشية باسم الدين؟ كيف يمكن أن تمارس هذه الألوان من العنف في حروب دينية تشن ومحاكم تفتيش تصب العذاب على البشر باسم الإيمان؟.

وبقي السجل الأسود للكتب الممنوعة في الكنيسة ساري المفعول حتى الخمسينات من القرن العشرين قبل أن يفتح الفاتيكان الباب للاطلاع والنقد لـ 4500 ملف سري تعود لمحاكم التفتيش واستخبارات الكنيسة. ولكن سجل الكتب الممنوعة ما زال ساري المفعول في أقسام من العالم العربي حتى إشعار آخر.

وقصة التضحية بالإنسان من أجل أفكاره ليست امتيازا للكنيسة بل هي مرض إنساني عام نجده في كل الثقافات.

هكذا ضحت أثينا عام 399 قبل الميلاد بأعظم فلتة عقلية في التاريخ البشري سقراط وهو شيخ مسن بدعوى أن يفسد عقول الشبيبة بفكرة الوحدانية. فبكت زوجته وقالت: ولكنك بريء؟ قال لها: ياكزانتبي وهل يسرك أن أعدم وأنا مدان؟

وأما تلميذه أفلاطون فقد أصيب بالصدمة بعد أن أعدمت ديموقراطية أثينا أستاذه فساح في الأرض اثني عشر سنة (من عام 398 ق.م حتى 386 ق.م) ثم جرب حظه في إصلاح طاغية سراقوزة فكان حظه أن أوصى الطاغية سفير اسبرطة ديونيسيوس وهو في طريق عودته إلى أثينا أن يقتل أفلاطون أو يبيعه في سوق النخاسة. فأشفق عليه واختار بيعه رقيقاً. وأما أرسطو المعلم الأكبر فقد فر من أثينا بجلده إلى آسيا الوسطى.

وهكذا سمم الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) في تحقيق ظهر للسطح مؤخرا غيلة بالزرنيخ بعد أن هرب إلى برد السويد.

ولم تطبع بعض كتب الفيلسوف الهولندي (اسبينوزا) إلا بعد موته في ظروف مخيفة. وعندما أراد سبينوزا نشر كتابه (الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي) أشاع عنه رجال الدين أنه يريد نشر كتاب يقيم فيه الدليل على عدم وجود الله.

وتمت محاولة اغتياله بطعنة سكين في الرقبة ثم مات منفوثاً بالسل مطارداً بقرار لعنة رهيب:” أن لا يتحدث معه أحد بكلمة وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفا وأن لا يعيش معه أحد تحت سقف واحدة وأن لا يقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع “.

وتتكرر قصة سبينوزا في أيامنا على صورة كتاب يناقش (النزعة المادية في العالم الإسلامي) فيصف صاحب الكتاب مفكراً مسلماً على الصورة التالية :(مادي ماركسي وضعي دارويني قدري معتزلي باطني شيعي ماسوني غاندوي يعتنق المادية وينشر الزندقة ويدعو لها بصراحة)؟! وكافأني الرجل بجرعة مماثلة أنا وجودت سعيد رحمه الله في العالمين.

التاريخ الإنساني كما نرى حافل بتعذيب الإنسان وقتله من أجل رأيه. ولا يشذ تاريخنا عن هذه القاعدة فقد تم سجر ابن المقفع في التنور من أجل كتابه (رسالة الصحابة) لأنه نصح فيها المنصور ما يعود بالخير على المملكة. وذبح التيار العقلاني وساد التيار الدوغمائي المتشدد ونفى (ابن رشد).

وذكر صاحب كتاب (الذيل والتكملة) ابن عبد الملك نص الإدانة الكاملة له بأنه أي بن رشد من “قوم خاضوا في بحور الأوهام فخلدوا في العالم صحفاً مالها من خلاق مسودة المعاني والأوراق ونشأ منهم شياطين يخادعون الله والذين آمنوا قصارى همهم بث عقاربهم في الآفاق.

فاحذروا هذه الشرذمة حذركم من السموم السارية في الأبدان ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار” ثم طرد الفيلسوف من المسجد الكبير ليطرد بعدها خلال جيل واحد كل أهل قرطبة في عقاب كوني جماعي؛ فلا يبقى في المسجد إلا المحاريب تبكي وهي صامتة والمنابر ترثي وهي عيدان. وكان ذلك بين نهاية ابن رشد عام 1198م ومعركة العقاب عام 1212م.

وحسب المفكر (أحمد أمين) في كتابه (ضحى الإسلام) فإن أحد الكوارث العارمة في التاريخ الإسلامي كانت في تسلط تيار (أهل السنة والجماعة) وقتل حركة (العقلانيين) وهو يقول أن التياران يشبهان من وجه حزبا (الأحرار والمحافظين) وأنه كان بالإمكان أن يتعايشا ويعدل أحدهما الآخر.

ولو حصل هذا لتدفق التاريخ الإسلامي في مجرى مختلف، ولربما ولدت الثورة الصناعية عندنا قبل بألف سنة. وهو الرأي الذي ذهب إليه (غالب هلسا) في كتابه (العالم فكرة ومادة) وكانت كل الشروط متوفرة . ولكنه انحط وانطفأت الحضارة الإسلامية. وكتب سفر الحضارة معكوساً من اليسار إلى اليمين.

وقتل (شهاب الدين السهروردي) بفتوى من المتعصبين ووصفه (ابن أبي اصيبعة) في كتابه (طبقات الأطباء) بأنه كان (أوحد في العلوم الحكمية بارعاً في الأصول الفقهية مفرط الذكاء جيد الفطرة) ـ والسؤال ما الذي جاء بالسهروردي بين الأطباء ولم يكن طبيبا؟ـ ولكن خصومه شنعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد بعد أن ناظرهم في حلب فأفحمهم فعملوا محضراً بكفره ورفعوه إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي بدمشق وطلبوا منه استئصال الشر بقتله حتى لا ينفث إلحاده بكل بلد يحل فيه فكان لهم ما أرادوا فقتل سنة 587 هـ عن 36 عاماً وأخذ لقب (الشاب المقتول) في التاريخ.

وكان مصير الحلاَّج أشنع فضرب ألف سوط وقطعت أطرافه وأحرق. واعتقل (ابن تيمية) في سجن القلعة حتى الموت وحرم من القرطاس والقلم حتى كتب بالفحم على الجدران مثل المجانين. وأما (سلطان العلماء) الشيخ (العز بن عبد السلام) فقد أغرى به خصومه الملك (الأشرف) بن الملك العادل الأيوبي أنه (زائغ العقيدة منحرف عما صح من العقائد الدينية الصحيحة) وأفتوا بأنه كافرٌ حلال الدم. وضرب (ابن حنبل) إلى حافة الموت، وجلد الإمام (مالك) عاريا مكشوف العورة. وسمم الإمام الأعظم (أبو حنيفة النعمان).

ودفن (ابن جرير الطبري) المفسر والمؤرخ سراً تحت جنح الظلام خوفاً من الرعاع الذين اتهموه (بالرفض) كما يدفن الأشقياء واللصوص. وذبح الحجاج (سعيد بن جبير) وهو يشخب في دمه ويقول له: لأبدلنك ناراً تتلظى. وفي يوم العيد الأضحى يقف أحد الجلادين يخاطب الجمهور أنكم تضحون اليوم وأنا سأضحي اليوم (الجعد بن درهم) ثم ينحره كالكبش الأملح.

والسؤال الكبير هو لماذا هذه المعاندة العجيبة (للكلمة)؟ إن هذا السؤال يفتح لنا الطريق لاستعراض أنثروبولوجي لتاريخ الإنسان والكلمة فالإنسان لم ينشأ على ظهر الأرض إلا مثل كلمة أخيرة من السطر الأخير في الصفحة النهائية لسفر الخليقة المكون من ألف صفحة. فعمر الأرض 4.6 مليار سنة. ولكن الحياة لم تبدأ إلا قبل 3.8 مليار سنة.

وبقيت الأرض قفرا بدون حياة لمدة 800 مليون سنة، وبدأت عديدات الخلايا بالظهور قبل 530 مليون سنة في انفجار بيولوجي استغرق عشر ملايين من السنين.

وحسب أحدث الكشوفات الأنثروبولوجية التي كشفها العالم الفرنسي (برونيت) في تشاد فإن تاريخ الإنسان يعود إلى أكثر من سبعة ملايين من السنين.

ولم يكن الشكل الإنساني واحداً بل مشى على ظهر الأرض أكثر من عشرة أنواع انقرضت كلها بما فيها إنسان نياندرتال الذي ظهر قبل 150 ألف سنة وكانت نهايته على يد جدنا الهوسابينس الحياة قبل ثلاثين ألف سنة حسب معلومات قناة الديسكفري.

وكان هذا إيذانا بتفوق الإنسان القاتل الناطق الذي بدأ رحلته من أفريقيا قبل مائتي ألف سنة فوصل أوربا قبل 35 ألف سنة واجتاز مضيق بهرنج مشيا على الأقدام حتى جبل النار في أقصى أمريكا الجنوبية قبل 12 ألف سنة.

وحتى قبل عشرة آلاف سنة كان الإنسان يأكل الوحوش والوحوش تأكله. وكل همه أن يملأ معدته خوف الموت جوعاً.

وبقي أحقابا يعتمد الصيد وجمع الثمار حتى قلبت المرأة شكل الحياة حسب المؤرخ (ويل ديورانت) في (قصة الحضارة) حينما اكتشفت الزراعة فأدخلته الحضارة وأمن على نفسه أن يموت جوعا ففاض الطعام ونشأت المدينة وتم تقسيم العمل ونشأت التخصصات وولدت الدولة ومعها الطغيان السياسي وبنى الذكور كل الحياة على شكل الثكنة وتطور السلاح واندلعت الحروب وحصل أعظم خطأ كرموسومي في بناء الإنسانية بتهميش المرأة واستيلاء الذكور على تشكيل مجتمع أحول يمشي بساق واحد كما في اسطورة شق وسطيح.

وبنوا مرافق الحياة على شكل عسكري وشنوا الحروب وما يزالون ونشأت ثقافة العنف والقتل وما زالت. والان من هما شق وسطيح؟ فأما الأول فكان يقفز بساق واحدة، وأما الثاني فكان خالي الجسم من العظام مثل الرخويات يزحف مثل الأميبيا أو الببوش (الصدفة) فهذا هو قدر المجتمع الإنساني مع الذكور؟

https://anbaaexpress.ma/t2op3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى