لم نعد قادرين حتى على تسمية ما نعيشه حقيقة، تبدو أدواتنا في التحليل غير مسعفة على وسم وتوصيف هذا الواقع السياسي الذي أضحينا نعيش في خضمه، بلا بوصلة، وبلا خرائط تنقذنا من التيه، ومن المسارات الأكثر إيلاما.
لم تعمل السياسات التحكمية بالمغرب سوى على تدجين حواسنا وتنويم الوعي النقدي فينا، وها نحن شهود على ما يشبه الدراما الحزينة لتبدلات السياسة، والممارسين في حقلها، وتراجع القيم، والانغلاق على هويات متوحشة دينية وعرقية وإثنية.. حتى أصبحنا غرباء عن ذاتنا، وزاد الإعلام الجديد العابر للقارات، في تسطيح الوعي، وأصبحنا نميل إلى الشاذ ونستهوي ”الفضائحي”
حتى تحول الفضاء الأزرق إلى ما يشبه “جنة السماء” في مقابل ما وصفته حنا أرندت بـ”جحيم الأرض”، ممزقين بين الواقعي والافتراضي، نعيش حالة فصام بين الإنساني والحيواني فينا، المنطقي/العلمي والخرافي.
بالأمس كان العدو واضحا في السياسة، إنه الآخر تشكل في صورة المستعمر أو النظام الاستبدادي الفردي، أو الكومبرادور أو التحالف الطبقي أو المركب الإداري المصلحي المناهض للتغيير.. كان العدو على مرمى حجر منا، نحدده بدقة ونمتلك عبقرية استثنائية لتوصيفه وتعيينه، كنا مثل ملائكة في مواجهة شياطين، مناضل انتحاري في مواجهة مناضل انتهازي.. لم تكن شاشة رصدنا سوى بلوني الأبيض والأسود..
وفجأة، انهار كل شيء واكتشفنا أن الشياطين ينبعثون بيننا ومنا، وأن الشر ليس من وظيفة الغير، والجحيم هو ذواتنا وليس الآخر بالضرورة.. اتسع ذلك الثقب الأسود الذي تحدث عنه الشاعر دانتي، ليلتهم بشهية لا توصف، قيم البراءة، التضحية، النزاهة، نكران الذات والإيمان بفضيلة العيش المشترك، أما الوطن والشرف فأضحت ـ لدى النخبة كما في قاع الطبقات الاجتماعية ـ مثل خردة متلاشيات أو نفايات لا تصلح حتى لإعادة التدوير..
وأنا أتأمل كل هذا الانحطاط المحيط بنا، لم أجد شيئا أصف به حالنا اليوم غير ما عبرت عنه جوليا كريستيفا بـ”الجثث الحية”، وهي تشكو الرداءة والعنف الذي أصبح يغزو الحياة الإنسانية التي تحولت إلى شيء يخلو من أي قيمة، من خلال تفجير الشر باعتباره ثقافة..
ليس الأمر خصيصة مغربية إذن، فالتفاهة والعنف والإسفاف أرضية مشتركة، لم يعد هناك حزب سياسي قادر على المبادرة دون أن يتعرض للشيطنة، وافتقد الفاعل السياسي للوعي النقدي وانفصلت التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية عن عمقها الاجتماعي.
وتراجع الإعلام الأنيق، وأصبح المغاربة غارقين في تفاصيل اليومي حتى قُنّة رأسهم، تمطرهم الهواتف الذكية والحواسيب وشاشات التلفزيون بكل أشكال المسخ الوجودي. محاصرين بأشباه السياسيين الذين زحفوا مثل الجراد على التنظيمات الوسيطية بين الدولة والمجتمع، والتي تتمثل وظيفتها الأساسية في تليين الغرائز المتوحشة، وترسيخ السلوك المدني لدى المواطنين، وتسلق بهلوانيون ومهرجون أعلى سلم مؤسسات الدولة والإدارات، والتنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية، بلا كفاءة ولا استحقاق..
وغرقت الساحة السياسية بكائنات سطحية، جشعة، متملقة، وخردة أغبياء لا تليق بمعظمهم حتى سلة مهملات التاريخ.
وها نحن شهود على ذلك الانفصام بيننا كجثث حية وبين شرطنا الإنساني، نفتقد أس الارتكاز الوجودي، الذي هو فن مقاومة الرداءة والتفاهة وكل أشكال الشر الذي تحول إلى ثقافة منوه بقيمتها..
مستسلمين كأبطال تراجيديين لهذا التسونامي الجارف، وعلينا أن نغرق في وحله، ونساير مساراته أو نقاوم كل من موقعه ككائن فاعل، منتج وحيوي ضد ما يسلب المغاربة شرطهم الإنساني، أقصد: الفعل، الأثر، الحركة.. أو نتمسك بنخوة أمير ميكيافيلي لنصالح جوهرنا الحيواني، ونتصرف بمنطق مزدوج: قوة الأسد ومكر الثعلب حتى نحافظ على وجودنا البيولوجي كجثث حية، فالصدق لم يعد فضيلة، والدهاء والأكاذيب هي جوهر العمل السياسي، والحقيقة محض كلمة لبناء جملة، كما يقول صاحب “المناضل الطبقي على الطريقة التاوية”.
نحتاج اليوم إلى زلزال كبير، ليس لنعود إلى ما كنا عليه، فلا يمكن أن نستحم في ذات النهر مرتين، وإنما لنتعرف على أنفسنا، ونصالح شرط وجودنا الإنساني ضد الرداءة والانحطاط ونتعرف على ذواتنا في المرآة، ونقاوم هذا الاستسلام الجماعي لقيم التفاهة والإسفاف، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.