يبدو أنّ سؤال الحداثة دخل مرحلة الجمود والتكرار، حتى أنه ما عاد بالإمكان إبداع رؤية أكثر تشخيصا وتحليلا لهذا السؤال، نظرا للالتباس الشروط التّاريخية، المرتهنة لعلاقة المركز بالهامش، وهي علاقة غير محايدة في موضوع التّقدّم، لأنّها جزء من شروط تأخّرنا بقدر ما هي جزء من شروط تقدّمهم، حيث التّأخّر بات وظيفيا، بعد أن أصبحت الحداثة نفسها مرتهنة لقواعد اشتباك الحرب والهيمنة على جغرافيا السؤال القلق حول التّقدّم.
سؤال التقدم والتّأخر في عصرنا الإمبريالي لا يمكن أن يكون ميكانيكيا، لأنّ عناصر الإعاقة تجاوزت الشروط التاريخية المحايدة، كما تجاوزت حتى الدولة. فالإمبريالية لا تعادي الشعوب إلاّ من خلال معاداة الدولة الوطنية والدولة الاجتماعية.
هذه قضية لم تعد جديدة على النّقاش العام أو الخاص، بل تحوّلت إلى خطاب استهلاكي، لأنّها لا تقدّم أكثر من توصيف وبيان مؤشرات التخلف، دون وضع حلول حقيقية، لا تمتلك ميكانيزماتها، وفي الغالب يصبح خطاب جلد الذّات هو العزاء، وفي سياقه تتنامى باكتيريا الخطاب المُلهي والمَلهاتي.
طُرحت مشاريع عديدة في المجال العربي، وتكاد تكونوا مستوفية لكل الملاحظات التي يثيرها سؤال التقدم في الوعي العربي. فلقد تمّ فحص التراث بما يكفي، ومن زوايا متعددة، كما تمّ فحص الحداثة من زوايا متعددة.
اختلف التنظير، غير أنّ لا أحد من تلك المشاريع وجد طريقا للتنفيذ، فتقارعت الأطاريح ودخلت في حالة من الانتشاء، وأحيانا كنا أمام حرب أهلية تنظيرية لا زالت آثارها بادية في البنيات التحتية لثقافتنا المعلقة.
السؤال الذي انحجب نهائيا، هو سؤال كوني حول ما إذا كانت الحداثة أجابت عن كلّ الأسئلة منذ البداية؟ ما حجم المحجوب من أجوبتها، والمستبعد من نظامها العقلي؟ وكيف وُلدت في شروط عاجزة تاريخية عن تحصين الحداثة من العدوان، الذي أنتج عنف الدّولة المركزية، وعنف الإمبريالية التي جعلت من شروط تقدّمها حراسة تخلّف الجنوب وإرغامه على التّبعية، والربط بين التنمية والحرب.
فاقتصاد المركز لا يتحقق إلاّ بتدفق موارد الجنوب إلى المركز، وهذا التقسيم التاريخي للعمل، ليس جزافيا، بل هو المسؤول عن كل أشكال اضطراب الجنوب، بل حتى ما يظهر أنّه استبداد الدولة في الجنوب، هو الشّكل المتناسب مع سياسة التبعية والإرغام: هل يمكن تصور ديمقراطية مكتملة في بلدان الجنوب؟ إنّ ديمقراطية الجنوب تعتبر تهديدا للأمن الاستراتيجي للمركز الغربي، إنّها لعنة ومروق، فكل الحروب القائمة هي إرغامية لعرقلة كل أشكال التنمية السياسية والاقتصادية في إطار السيادة والاستقلال.
المهمّة التاريخية للجنوب باتت صعبة أمام تسليح العلاقة غير المتكافئة بين الشمال والجنوب، وهي لن تكون علاقة عادلة. إنّ اختزال الحداثة والتنوير في بُعدهما الإرادوي، وتجريدهما من عناصر الاقتصاد السياسي والعلاقة المركبة بين المركز وعالم الجنوب، تظل مقاربة فولكلورية قد تصل إلى حدّ العدوان؛ بل ستصبح دعوى استعراضية وأحيانا وظيفية استهلاكية تنفي المسؤولية عن المركز في لعبة الإخضاع.
هناك بلدان تعاظمت على الرغم من انطباق شروط الجنوب عليها، وهي محظوظة في تموضعها الجغرافي، أحزمة أمنية داخل أوراسيا، دُشم أمام زحف الصين غربا وروسيا شرقا.
إن اختزال سؤال التقدم في الكوجيطو الديكارتي مهزلة في زمن باتت التقنية في يد شباب الجنوب تكوينا، لكنها غير متاحة تنزيلا. سؤال التقدم اليوم يجد شروطه في الاقتصاد السياسي والسيادة في تدبيره ذاك السؤال.
لقد بات سؤال الحداثة والتقدم والتنوير ككل خطاب في زمن التقليد و الـ(ريكلام)، ذا طابع فُرجوي، استهلاكي، تبسيطي وأحيان لاعقلاني، لأنه وبكل بساطة هيغليا، ليس واقعيا.
وستجد أنّ رواد خطاب الحداثة في بلادنا رحلوا أو صمتوا، وباتت الحداثة لغوا ولعقا على ألسنة طولى من نوابت المنعطف الأزموي: ضعف المناعة وتكاثر الباكتيريا، وطنين ميّع الأسئلة الكبرى، وقضم جدّية السؤال، وهذا هو نفسه تجلّي من تجليات التخلف.
فحين يصبح سؤال التقدم تبسيطي وفرجوي يستبعد الشروط الحقيقية للتقدم ويتجاهل العناصر المركبة للتخلف، يصبح إذّاك خطاب ديماغوجيا يعزز التّخلف ويشوّش على الوعي.
لم يعد مهمّا التذكير بالمبادئ الكبرى للتقدم. درس عرفته البشرية واستوعبته جيدا. لكن السؤال الملح هو: ما هي أسباب هشاشة الحداثة، بالمعنى التاريخي والكوني، التي أضعفت مناعتها تجاه العدالة الدولية.
إنّ المشكلة إن أردنا الحديث عن السؤال الأخلاقي، فهو سؤال حول العدالة، أي الحق في التقدم والمساواة في التّقدّم. هذا الوضع المزري الذي أعاق تطبيق كلّ الأحلام المثالية للحداثة، هو الذي جعل الكثيرين يستسلمون لعنف الحداثة كقدر، بينما هو عنف يتجاوز فكرتها، لأنّ العنف الجوهري لعهد الإمبراطوريات لم يسمح للحداثة أن تنطلق من خارج شروط التحكم بمساراتها. لم تنشأ الحداثة حرة.
بل نشأت بموازات شروط التحكم والهيمنة، وهو السؤال التاريخي المستبعد عن الحداثة، وحيث مشكلتنا اليوم ليست سؤال الحداثة والتأخر، بل هو سؤال الغلبة، سؤال الصراع حول مركز الحداثة وحو العدالة في التسوية.
وهذا الوضع لن يكون مأساويا بالنسبة للجنوب، بل سينقلب على الغرب، لأنه هو نفسه وفي ذروة تسليع الحداثة، سيرهن مصيرها بثرواة الأمم وطرق تدبيرها على قاعدة الهيمنة والاستنزاف، ستنتحر الحداثة بيد الجياع القادمين من المركز العميق، من داخل انتهاكاته للمبادئ والمثل التي أمنت مسارا تحملت فيه البشرية كل هذه التضحيات وجرائم الحرب التي أنتجت حربين عالميتين، ساهمت في إعادة إنتاج الفوارق الدولية وتقسيم العالم حسب مصادر النفوذ والثروة.
لقد بات سؤال الحداثة، سؤالا كونيّا، يتعلق بمُساءلة المبادئ والأسس، وما يُسمى بالسؤال التاريخي للحداثة، لا يمكن أن يُقرأ في سياق حياد المركز، بل هو سؤال أكثر تعقيدا، لأنّه أصبح سؤالا موصولا بسؤال المصير والسيادة والحرب والمناورة.
نحن إذن في الهمّ والتخلف عن الحداثة سيان، وأوّل المتخلفين هم من حوّلوا السؤال الجدي للحداثة إلى تصفية حساب ديماغوجي وافتئات على آباء الحداثة، واستهلاك لأعقاب سجاير عهد الخطابات الجادّة، والمشاريع الكبرى. حداثة العقل لا حداثة الـ(طمطام).