“للذين يستسهلون مباحث التشريع، فيفتون من دون نجم به يهتدون أو يناكفون من دون رصيد من منقول ومعقول، هذا مدخل للفهم وتنوير الحالة بوجهيها النقيضين، دفاعا عن الوعي التركيبي وخلاصا من تبسيط الوعي والواقع واحتلال غير مشروع للفضاء العمومي للنّقاش”
تبدو علاقة التكليف بالواقع بكلّ حيثيات العلاقة، مفتاحا للعبر-مناهجية، تلتقي عندها الاختصاصات وتتكامل في مُتّحد لا محيد عنه، من حيث أنّ المكلّف هو ابن سياق تاريخي، ابن شروط اجتماعية، ابن طور علمي، ابن حالة نفسية، ابن نمط اقتصادي، ابن وضع بيولوجي…كل هذه الاعتبارات تدخل في صميم تلك العلاقة، وهو ما يعني أنّه لا فكاك بين الحكم الشرعي وشروط التنزيل والامتثال.
ما هو الشرط الاجتماعي للتكليف؟ ما هو الشرط النفسي للتكليف؟ ما شروط تحقق المُعذرية والمُنجّزية بلحاظ القطع الطريقي، حيث يؤخذ وضع المُكلُّف من حيث العلم بالتكليف أو الموضوع في القطع الموضوعي كما لو اشترط العلم بحال المُكلّف في حالة الرُّخصة، وحيث يؤخذ حاله في الضرر في نازلةٍ ما من موارد تطبيق قاعدة لا ضرر، وهكذا دواليك.
وإنّ الناظر في علاقة التكليف بالواقع، يدرك لا محالة، مدخلية المنطق في ما آلت إليه مسائل أصول الفروع، كما لو تعلق الأمر بالتَّجري، الذي يضع المعنِيَّ بالأصول في حيرة بين ثبوته وعدمه، أو مع فرض عدمه، هل الحسن والقبح في المقام، علمي أم واقعي؟ وقد اتضح لك أن المدرسة العقلية، لا تقف عند الحسن والقبح العقليين والذاتين في الكلام، بل لهما أثر بالغ في أصول الفروع وفروع الأصول، لا خلاف.
هذا وقد دخل في البين أمر مُلِحّ، ينتهي إلى الإرادة والحرية، تحت طائلة القاعدة العدلية: قُبح العقاب بلا بيان، وقبح التكليف بما لا يُطاق، وذلك لأن التكليف قائم بالمعلوم، فالباعثية على الحركة تتوقّف على الإثبات العلمي لا الثبوت الواقعي.
وقد تبين كما في مناقشة صاحب الفرائد لصاحب الفصول، في كون الأثر الواقعي هاهنا ليس اختياريا، والتكليف منوط بالاختيار، وتقرر إذاك بأن التكليف منوط بالعلم لا بالمطابقة.
وفي المثال الذي اوردوه في المقام، حول قُبح التجري في حال تضارب العلم مع الواقع في مثال التجري المطابق للمطلوب في موضوع قتل النبي الواقعي بناء على القطع العلمي المخالف للواقع، ومن هنا ارتباط الحسن والقبح بالاعتبارات.
ستواجهنا إشكالية تبرير موقف الإرهابي القاطع بحسن موقفه وقبح الترك لما قطع به. ومع أن معظم الإرهابيين والتكفيريين هم من غير المدرسة العدلية، إذ التحسين والتقبيح ليسا عند القوم عقليين وذاتيين، لكنه تأويل ظاهري للشريعة. فتصبح المشكلة لها علاقة بالأسس، والمفاهيم، وجدل الواقع والمقاصد.
إن إصابة الواقع في حد ذاتها مصلحة، فقد لا يُثاب عليها المتجري، لكن المصلحة تطاله موضوعيا وإن كان قاطعا بخلافها علميّا، وقد يكون ذلك نابعا من اللُّطف، فتأمّل.
هذا وقد اكتمل النظر في القطع مع صاحب الفرائد، اشتغالا تفصيليا غير مسبوق، حيث تقررت معه الحجية الذاتية للقطع. وإنّما تمّ التفريع في جناحي القطع، بين الطريقي منه الكاشف وبين الموضوعي منه المثبت للحكم والمأخوذ في ذيله، مع وجود صور أربعة منه يستحيل فيها الموضوعي تنزيها عقليا وعُقلائيا، وهنا السّفر في طبقات الاعتبار، حيث لا فرق في الأثر بين عروض الموضوعي على الموضوع أو الحكم، أو قسميه فيما لو كان الموضوعي تمام العلّة أو جزء منها، فيما لو كان طريقيا.
حيث الطريقية هنا عارضة على الموضوعي في نوبة أخرى في مقابل الوصفيّ منه، وصفا متمحِّضا أم ذا إضافة، مع وجود نقاش في ذي الإضافة، غالبه أنّ القطع من جنس ذي الإضافة، حيث ليتهم فتحوا أفقا لمعالجة هذه القضية في ضوء اتحاد العلم والعالم والمعلوم، أي الموقف الصدرائي من السينوي بخصوص العلم إضافة أم لا.
ولكنّني أمضي معك لغرض أبعد مدى، هو فينومينولوجيا التّكليف، إذ كل هذه الاعتبارات تجعل المدار في المنجزية والمعذرية هي الوعي الفينومينولوجي بالحكم والواقع، وهذا القطع في مستويات اعتباره، يصلّ حدّ الفرق بين التفصيلي منه والإجمالي، وفي الاجمالي ينفتح بحث الاحتمال الأصولي صنو الرّياضي منه وأزود في التّصور والعمل.
لقد استغرق تعريف العلم وموضوعه ومسائله من أصول الفروع ما يؤكد أنّ الاستنباط والاجتهاد ليس نزهة ونزقا على طريق النظر التشريعي والقانوني، بل جهل جهلا فاحشا من اعتبر فِقهنا موروثا أو منقولا غير مُفكّر فيه أو من خلط بين الآثار العملية للحكم وتنجُّزه، هائما في استحسانات رخوة، ونظرات تبسيطية منحدرة من مدارس العقل فيها زائر ليس راسخ الجذور أو من ذهب في المقاصد من دون قواعد في الاعتبارات.
وكلّ هذا من “الاغترار ” حقّا في الإحاطة بالمنقول والمعقول شاطّا في مدركات المعرفة، ناطّا من حقل إلى حقل دون وصل بين الجسور، لمن جهل الأصول في مداركها التي ناطحت الرياضيات في مسائلها، حتى تراءت مسائل العلم على نحو مفاد كان الناقصة بخلاف المبادئ التي هي على نحو مفاد كان التّامة، ما جعل صاحب الفصول يُشكل على صاحب القوانين، حتى لا تكون الدليلية جزء من الموضوع، لمّا ذهب صاحب القوانين إلى أن موضوع الأصول هي الأدلة الأربعة بما هي أدلّةوليست بما هي، حسب مُختار صاحب الفصول، وكلاهما وقع في ما وقع فيه، حيث الوعي الفينومينولوجي بالاعتبارات الممكنة لا يقف هنا، بل يمتد مع صاحب الكفاية إلى القول بمطلق الأدلة لا من حيث هي أدلة ولا من حيث هي هي، دفعا لصيرورة كل مسائل العلم علوما قائمة.
فالقول بقيد الدليلية يضعنا في هذا التسلسل اللانهائي، وحصر الموضوع في الأدلة الأربعة مدفوع بوجود مُفارقة دخول وخروج كلا المبحثين الرئيسيين: خبر الواحد والتعارض، حيث لا غنى عنهما في مباحث الأصول،ولا يدخلان فيها. إنّنا هنا ندرك بأنّ خبر الواحد لا غنى عنه، عند الأصولي، بعد أن أدركت بأنّ الكتاب لا يغطّي كلّ النوازل فيُصار إلى المتواتر من السنة وهو نزر قليل، فيُصار إلى الإجماع وهو غير حاصل عند التحقيق، محصوله ومنقوله، فهو مسامحة، وعند التفريع يصبح مسامحة في مسامحة كما عند صاحب الفرائد، فيُصار إلى العقل، وهو ناذر في المقام.
وهنا، أسجل أزمة الأدلة الأربعة، لأنّ الغائب هنا، اعتبارها متشابكة متكاملة، فالعقل لا يُصار إليه، بل هو حاضر من الدليل الأوّل، وبه يتم التحقق والنظر. فإذا أخذنا بالتّأويل، لم يعد للأدلة وجود عرضي، بل يصبح على أقل تقدير وجودها طوليّ، بل متكامل، فليس العلوم وحدها من يتكامل بل الأدلة هي المعني الأول بالتكامل.
فمُختار صاحب الكفاية أحكم من ناحية إطلاق موضوع الأصول ليشمل كل الأدلة، مما يجعل المائز بالغرض القريب وإن التقت أغراض سائر العلوم في غرض الأغراض: الموقف الأنطولوجي الأسمى.
ورأينا أنّه لا يقوم الاجتهاد على مصادر وأصول غير ناظرة إلى بعضها في تراتيب طولية. فحتى حينما يرد نص في حالة، والاجتهاد في النص مطلوب، فلا يعتبر من الاجتهاد مقابل النص، فالعقل حاضر مع وجود النص أو عدمه. وهذا يعني أن الشريعة بنية قائمة يُقرأ فيها المنصوص في عين المعقول والعكس.
وهذا في البحث يتفرع ويطول، وسنأتي إلى التّأويل العابر منهجيا لكل هذه الحقول، حيث القطع بلحاظ تداخل مدارك الأدلة واعتماد آلية التّأويل، سيجعل من القطع أبعد من كونه ذا إضافة، بل يتحد العلم به مع المعلوم، ويصبح مدرك الواقع في نفس الأمر مشمولا بحدس الوجود، حيث مآل تداخل المدارك والعلوم والمناهج، تحقيق الموقف الوجودي. فإذا لمست اللحظة الوجودية، انحلت إشكالية الكاشفية ونفس الأمر.