تجاهل المقاصديون-في مهرجان سِباق الإِسْتِنْشَاء وغياب مجلس أعلى للحسابات العلمية-مبحث اجتماع الأمر والنهي ومسألة التَّرَتُّب، إلاّ ما كان ظاهرا في التسطيح، مُناكفا للعُمق والتفصيل، فالمقاصد هنا في صنعة (EN RECLAME) تظل ثابتة، لا حراك فيها ولا استحالة ولا بَدَلِيَّة ولا مراتب، وكذا حال المُكلف في الامتثال.
فغياب قواعد متينة، واستضعاف أثر العقل أو المعقول العقلي واعتباره أجنبيا عن المعقول الشرعي، والضعف البادي كلّما جرى القول في العقل والمعقول، ولهذا أثر عمليّ خطير في مقام الاستنباط. إنّ المقاصد ستكون قاصرة مادامت لم تكتمل أسس النظر الأصولي، وما لم نقف على تفاصيل الإمكان والاستحالة التي تتطلّب فتح الاجتهاد في الأصول والأسس.
فالأحكام في نزولها وصعودها تتبع المدارك والعناوين وطُرق إدارة الحقيقة في التشخيص والتنزيل، فالاجتهاد لا يقوم مع تجاهل القواعد العقلية التي هي مشترك بين العُقلاء.
وفي مسألة اجتماع الأمر والنهي نُذكّر ونرجّح أنه لا خلاف في أنّ التنافي حاصل في مرتبة المِلاك من الأحكام، ولا نقاش في التنافي ثبوتا وعدما في مرتبة الجَعْل، بينما النّقاش في التنافي أو عدمه في مرتبة الامتثال.
وفي هذا المبحث ثمرات وآثار عملية مشهودة، لكن الأَوْلى أن يؤخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار في حكاية المقاصد، لأنّ دعاة المقاصد، فضلا عن اختلال أسسهم الكلامية والأصولية في كبرى الدليل، هم غالبا ما يخلطون بين مراتب الأحكام: ملاكا وجعلا وامتثالا، وأنواعُها: تكليفا ووضعا، مولويا وإرشاديا، عباديّا وتوصُّليّا، ما اختصّ بالجامع وما سرى إلى الحِصص وهو من مسائل هذا المبحث.
ففي هذه المسألة ونظائرها، تظهر قيمة القواعد العقلية، وروح الشريعة التي هي مقاصدها في مرتبة المِلاكات، وهي ملحوظة في جلب المصالح ودرء المفاسد التي لها أطوار ومراتب لا يمكن إحرازها في غياب دور العقل وقواعده في أصول الكلام وأصول التشريع معا.
ويظهر ذلك بوضوح في مسألة التّرتُّب، إذ لا خلاف في امتناع اجتماع الأمر بالشيء والنّهي عن ضدّه، حين يتعلق الأمر بالحكم في مرحلة المبادئ، وذلك لوقوع الاتفاق حول علاقة الحكم بالمصلحة والإرادة في مرتبة المبادئ. وإنّما يقع الخلاف في مرتبة الامتثال، ليس في علاقة الحكم بالمصلحة والإرادة، بل الخلافُ هنا حول ما هو أهم وما هو مهمّ في المصلحة.
وسيتبيّن أثر هذا المطلب بعد الوقوف على بعض تفاصيله وإشكالياته، باعتباره من أهم المسائل الأصولية، لعلاقته المباشرة وغير المباشرة بالصول، ذلك لأنّ البحث في الاستحالة والإمكان ليست لازمة للكلام، بل هي لها هنا ثمرة عملية كما سنرى، فالبحثفيما هل هو مطلب كلامي أم أصولي لم تعد ضرورية، بعد أن تبيّنت القيمة العملية للمطلب، بل إنّنا نرى أنّ لا مانع من كلّ مطلب يعزّز تحرير محلّ النّزاع بما يحقق الأثر العملي، ولدخوله في الغرض.
ومحلّ النزاع في التنافي وعدمه في مسألة امتناع الأمر والنّهي، هي من المباحث “الإستراتيجية” في الأصول، لا من حيث مساهمتها في تنمية التّعاقلية الأصولية، ولا من حيث تحقق الأثر العملي لها، ويكفي أنّ لها علاقة بقدرة المكلف وعدمها شرعيا وعقليا عن امتثال ما هو مورد تزاحم.
يرتفع التّنافي حين يتعلق الأمر بالطبيعي في الأمر دون سريانه إلى الحِصّة، فيكون المتعلّق هو الجامع دون الأفراد، فقد يجتمع حينئذ الأمر والنهي متى كان الأوّل محصورا في الطبيعي والنهي في الحِصّة. وعكس ذلك لا يتحقق فيه الجمع، كما في سريان الأمر في الأفراد، فلا يُتصور اجتماع الأمر والنهي بلحاظ المبادئ.
وقد حصل نقاش في مستوى توجيه موارد واعتبارات رفع التنافي بين مبنى الميرزا النّائيني والشهيد باقر الصدر، إذ يرى النائيني تخريجا مبنائيا يعتبر الإطلاق في الجامع شاملا للترخيص في الحِصص.
وأن التنافي هنا هو بين الحصة المنهي عنها والمرخصة في آن، فالتنافي ليس بين الأمر بالجامع والترخيص بالحصة، بل هو تنافي في مقام الحصة، حيث الامتناع قائم بين النهي والترخيص في الحِصّة، ما عدا لو كان حكم الحصّة دال على الكراهة فلا تنافي، حيث الجمع بين الرخصة والكراهة ممكن بخلاف الجمع بين الواجب والنهي.
سيعارض الشهيد الصدر رأي الميرزا النائيني في هذه المسألة، فالإطلاق لا يفيد الترخيص، ذلك باعتبار أن الإطلاق في حقيقته عدم لحاظ القيد مع الطبيعة. مؤكّدا على أنّ الترخيص لازمٌ لعدم وجود المانع من قبل.
فالترخيص لازم للمصدر، أي للأمر وليس لجاعل الأمر. وعليه يكون التنافي مع جاعل الأمر وليس مع الأمر، الذي هو محلّ النزاع هنا.
وفي مستوى آخر، مع اختلاف العنوان، أي حين يتعلق الأمر بعنوان معين والنهي بعنوان آخر، يمكن رفع التّنافي، حتى مع اتحاد المُعنون في الخارج.
وسعيا لرفع منع اجتماع الأمر والنهي، في مستوى خصوصية تعدد العنوان، يذهب الشهيد الصدر إلى إبراز وجهين لتعدد العنوان، حيث في المستوى الأول يكون العنوان في متعلق الأمر مختلفا عن متعلق العنوان في متعلق النّهي، وهذا الوجه مخصص لتعدد العنوان المفضي لتعدد المعنون، وهو وجه يرفع امتناع التنافي في كلّ الأحوال، حتى على مبنى الميرزا النائيني، لكن في هذا المستوى يجري النقاش حول مدى صحة إفضاء تعدد العنوان إلى تعدد المعنون، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مثل هذا يصحّ في حال العنوان النوعي، وليس في العناوين الانتزاعية من حيث ارتهانها للاعتبارات. فقد يرتفع المنع عن التنافي إذا كان تعدد المعنون ناتجا عن تعدد العنوان، غير أنّ لا دليل ينهض بهذا الإفضاء بالضرورة، لحصول ذلك الإفضاء في العنوان النوعي لا الاعتباري. وأما في المستوى الثاني للمسألة، فيكفي القول بتعدد العنوان دون الأخذ بعين الاعتبار إن كان يفضي أو لا يفضي لتعدد المعون، حيث الأحكام في الأصل تتبع العناوين.
وحاصل ذلك ارتفاع التنافي، ولا حاجة حينئذ إلى تعدد المُعنون. وقد دفع الشهيد الصدر في الحلقة الثالثة الاعتراض على عدم لحاظ الواقع واعتماد الصورة الانتزاعية، وذلك من منطلق أنّ الصورة الذهنية هي حاكية عن الواقع.
وهنا تكمن قيمة الموقف الفينومينولوجي من التكليف، لكونه جامع بين العلم والعمل، بل العلم مأخوذ في تنجيز العمل، وهنا يكون العنوان ليس متعلقا بالصورة الذهنية السارية إلى الخارج على نحو الحمل الشائع، بل العنوان هنا ملحوظ فيه متعلّق الحكم بالحمل الأوّلي.
وفي المستوى الثالث، أي اشتراط عدم التعاصر في الفعلية، الذي يجيز رفع التنافي، حيث يورد صاحب الحلقات المثال المعتمد لهذا الوجه من رفع التنافي بمثال “طُرُوُّ الاضطرار بسوء الاختيار”، بناء على أنّ “الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي سوء الاختيار عِقابا، بل يُنافيه خطابا”.
لكن الشهيد الصدر يردّ هذا القول ولا يراه جديرا بدفع التّنافي، وذلك لأنّ القول في المستوى الثالث الذي مرّ معنا، لا يرفع الإشكال على مستوى المِلاك، فيترتّب عنه اجتماع المصلحة والمفسدة، فلا يُصار إلى القول بنفي النّهي في المثال المذكور، لأنّه لم يحصل تغيُّر في المِلاكات.
فرفع التنافي بين الأمر والنهي ممكن في حالة وقوع نسخ في المِلاكات. والحال أنّ النقاش في المستوى الثالث يقتضي سقوط الخطاب في عالم الحكم لا في الملاكات.
ويقف الشهيد الصدر أيضا على مستوى آخر من اجتماع الأمر والنهي، مسألة جرت عند الأصوليين، تتعلق بواجب تخليص الواجب من الغصب في مثال الصلاة في الأرض المغصوبة، على تقدير أنّ هذا التخلّص هو مقدمة الواجب، وعلى تقدير وجوب مقدّمة الواجب، يكون خروج الغاصب من الأرض المغصوبة واجبا يتحقق به تخلص الواجب من الغصب، لكن المسير في الأرض المغصوبة بتقدير مقدمة الواجب، هو نفسه تصرف في المغصوب، وهنا يجتمع الأمر والنّهي.
لكن الشهيد ينفي أن تكون تلك المقدمة بمثابة مقدمة الواجب، كما يستثني هذه المقدمة من الحصص المشمولة بالنّهي، أو باختلال يطرأ على قاعدة مقدّمة الواجب.
وأمّا حُرمة التصرف في المغصوب فلا تجري على هذا المورد، وعدم اعتبار المقدمة على تقدير وجوبها فهي ليست مقدمة الواجب. وكون الخروج من الأرض المغصوبة في المثال أعلاه ليس مقدّمة الواجب، حسب ما ذهب إليه الشيخ الأصفهاني في النّهاية، فهو على مبنى عدم كون الأمر بالشيء مقدمة لترك الضد، فليس الضدّ معلولا للإتيان بضدّه، بل العلّة هنا متعلّقة بالإرادة لا بخصوص الحكم.
وهنا في المقام، الواجب هو ترك البقاء في الأرض المغصوبة، وهو ليس ضدّا، وبهذا لن يكون مقدّمة الواجب، ذلك لأنّ الخروج والبقاء متضادّان، بينما الواجب هو ترك البقاء.
حين يتسبب المكلّف في استحالة الامتثال نتيجة سوء الاختيار ، وتتساقط الخطابات، لتنحلّ بذلك مقدّمة الواجب، فيرتفع الخطاب ويثبت العقاب، فيخرج الأمر من موضوع اجتماع الأمر والنّهي، فذلك كما مرّ معنا لا خلاف حوله في الملاكات، سواء أتعلّق باجتماع الأمر والنهي النفسيين أو الغيريين أو النفسي منهما والغير، لا استثناء في خصوصية الحكمين.
هذا مع أنّ صاحب الحلقات قد تناول الوجوب الغيري بعد أن نقض وجوده من قبل، لكنه تدارك ذلك بالقول أنّ ذلك كان في مرتبة الجعل لا مرتبة المبادئ. لتبقى ثمرة القول في امتناع اجتماعهما ثابتة من حيث، أنّها في حال اجتماعهما، يكون كلاهما داخلان في باب التعارض، حيث في مثل هذه الحالة يكون الترجيح للنهي بدل الوجوب، لرجحان النهي الموصوف بالشمول على الواجب الموصوف بالبدلية. هذا وفي حال جواز الاتحاد فلا يكون هناك حديثٌ عن التعارض، فإمّا حينئذ يكون هناك خيار أو بتعبيره “مندوحة”، فلا يتحقق التزاحم، وإمّا مع عدم وجود مندوحة، فيُصار إلى امتثال الأهمّ.
كما تتأكد الثمرة الثانية في صحة الامتثال، وذلك من حيث إن كان المبنى على ما تقدّم في أمر التزاحم، حيث في هذه الحالة يُرجّح النهي لشمولية الإطلاق على الوجوب، فيسقط هذا الأخير ولا يصحّ امتثال الواجب في هذا المقام. فتتحقق الثمر العملية للمطلب المذكور.
حيث لا خلاف في هذا المورد بين التّوصلي والتّعبُّدي، وذلك لأننا في حال كان المبنى على جواز اجتماع الأمر والنّهي، فيكون التفصيل بين التّوصلّي والتّعبدي على خلاف مبنى التّزاحم. فحيث في هذا المقام لا يسقط الواجب، يكون امتثال التّوصُّليّ صحيحا سواء مع وجود مندوحة، فيصحُّ الامتثال بموجب التَّرتُّب أم مع عدمها فيصحّ أيضا بموجب إطلاق الواجب القائم.
وحتى في حال تعلّق الأمر بالوجوب التعبّدي الذي يشترط نيّة القُربة، يُجزِئ، بناء على تعدّد المعنون كما مرّ معنا، إذ الإشكال هنّا في التّعبدي حين يتعلّق بوحدة المُعنون، فيتعذّر تحقيق نية القربة إذّاك، فلا يصحّ.
ويمضي الشهيد الصدر في بيان الأثر العملي لمسألة اجتماع الأمر والنهي، من حيث حال المُكلّف في العلم والجهل، فالأمر يجري عليهما بلا خلاف مع وجود تفصيل في المقام، أي أنّ جريان الأمر بينهما في مورد التزاحم، وذلك لأنّ التنافي هنا ثابت بين الوجوب والحرمة، فلا مدخلية لعلم المُكلف وجهله في هذا التّنافي.
ولكن في حال عدم التعارض، وتحديدا في الوجه المُشكل في هذا المورد، وهو وحدة المُعَنْوَن، الذي يُستثنى فيه صحة الامتثال في التّعبّدي لاستحالة تحقق نية القربة في المنهي عنه، هنا لا مانع من جريان نية القربة لمن لا يعلم لارتباط التّنجُّز بالعلم، فيتحقق حينئذ الواجب التّعبُّدي.
هذه مجمل تفاصيل النّقاش حول وجوه إمكان رفع التّنافي، وثمرات المطلب. وإنّ مدخلية الكلام في الأصول هنا ليس فقط من جَنْبَة كونه له أثر عملي على مستوى الامتثال، بل أيضا للكلام مدخلية في جوهر المصلحة وقيمتها الموصولة بالعدل والمشروط باعتبارات العقل، وكلّها موارد قائمة في الكلام، وهي هنا مطلوبة لتحقيق أعدل موقف في رتبة المبادئ وأعقل موقف في رتبة الامتثال.
ولسوف يكثر العُثار في المعقول والمنقول ما لم نتثبّت أكثر ونطلق اللِّجام أمام هذا الجموح والهذيان، في زمن استسهال النّظر وفوضى الأحكام. بل إنّ غياب الحسّ العلمي في مُلامسة البنيات والاعتبارات والدينامية التي تحيط بعلاقة الإنشاء والجعل والامتثال، وتحقيق مراتب وعُلَقِ المسائل باعتباراتها، سيجعل كلّ ما فكّرنا فيه مناسبا لتلك الشروط تقدُّما ونكوصا.