في أنثربولوجيا العلاقات الدّولية، المساحة التي يجب أن تمتدّ إليها الأنثربولوجيا السياسية، نقف على ميراث وافر من الأساطير التي لا زالت تنتظر يد التفكيك والتأويل.
وكما أنّ الكوجيطو في مدارك التفكير استند إلى أسطورة القضاء المبرم على كلّ ما يقوم في الوجود ما عدا الفكر، علما أنّ الكوجيطو لم يفعل سوى أن أثبت الوجود للأنا- أفكر، فإنّ مفهوم حجاب الجهل لا يزال يحتفظ بوضعه كأهم الأساطير المؤسس للعقد الاجتماعي. إنّ السياسة لم تنفك يوما عن الأساطير القديم منها أو المحدث.
ليس علم السياسة كعلم الرياضيات والفيزياء، بل هو علم إخفاء الأسس الأسطورية لقيام الاجتماع السياسي. فحظّ الحداثة من هذا التقسيم الأسطوري للسلط وإخفاء المحدد الأسمى لها، لا يقلّ عن أساطير الأوّلين.
تقدم لعبة التباري وقواعد الانتخاب نفسها كانتخابات مدنية سياسية وليست انتخابا طبيعيا بالمدلول الدّارويني.
علما أنّ لعبة الانتخاب تحوّلت إلى أرتمثيقا تُرابية، كما لم تنفكّ عن رهان القوة والغلبة والعصبية بأساليب مستحدثة.
إنّ عجز السياسة عن إحداث قطيعة مع هشاشتها، يؤكد أنها آنست بلعبتها الخالدة، وهي في حالة مقاومة لبديل تاريخي وحضاري يحمي السياسة نفسها من أساطير المُحدثين.
ما يقوم به المحلل السياسي الوظيفي، هو إعادة إنتاج، ومن دون وعي، لكل هلاوس الأساطير العميقة للسياسة، متوسّلا بمفاهيمها المجردّة، مستأنسا بالتكرار الذي آل إليه وضع علم السياسة في نكبته المعاصرة.
فالجمود وعقم إنتاج مخارج جديدة، لخرق حدود الأساطير المتغلّبة، وتعقلنها الخُرافي الذي يستند إلى كوجيطو مضلل، يخفي مسبقاتها، حيث منها اللُّهاث الأبدي للعصبية والغُلب، بالعنف الظاهر أو الخفي، الماديّ أو الرمزي، يوحي لحُفّاظ ألواح علم السياسة أنهم قبضوا على جوهر السياسة ولامسوا عقلانيتها الخالدة.
إنّ ما يبدو فيبيريّا كعقلانية بيروقراطية، هو التسليم المعاصر بتوتاليتاريا السيطرة وكذا الترويض المعاصر على شمولية تعاقدات الإذعان. فمن لا يرى استمرار العناصر اللاّعقلانية في بنية الاجتماع السياسي المعاصر، فهو جزء من آليات إعادة الإنتاج لهذا الوهم الكبير.
لا يزال خطاب الأساطير مهيمنا على العلاقات الدولية، ولا زالت الدّول تتمثل مبدأ المشاركة، المبدأ الذي استند عليه ليفي بروهل في تحليل المجتمع “البدائي”. والحق أن المجتمع البدائي أوجد تدابير لحماية اجتماعه من التفكك وإرساء الاستقرار. فهي مجتمعات مستقر بخلاف المجتمع الحديث التي تعيش وضعية حرب أهلية مستدامة، ذات منشأ طبقي.
لقد اختبأت أساطير المجتمع الحديث خلف تضليل سلطة المفهمة والتقنية ومظاهر القطيعة في الأنماط الاستهلاكية، وهي حقائق لها علاقة بتحوّلات كبرى في مسار حضاري، سرعان ما أحاطه الغرب بأساطير جديدة قصد احتكاره وإحاطته برموز تحدّ من انفتاحه، إلاّ عن طريق موجات إمبريالية جعلت ثمن الحداثة هو الإخضاع، وجعلت أساطير الحداثة منشأ للعنصرية والاستعمار والنهب ميركونتيليا وفيزيوقراطيا.
ولا زالوا يفعلون نيوليبراليا، لأنّ الأسطورة الأعظم في العلائق السياسية، هي حرب الشمال على الجنوب، الحرب الاستباقية على نهضة الجنوب، ومقاومة تحرره تعزيزا للعنة التبعية الأبدية، شيء من أساطير الدرجة الثانية تفيد في امتياز عبيد المنزل، على الرغم من أن هذا التفاوت سرعان ما يستوي في حساب التفاضل والتكامل في مخرجات العلاقة مع المركز الإمبريالي.
تشبه ديمقراطية العالم الثالث المُباركة إمبرياليا، تفاوتا في المذاق بين مشروب الكولا بين جودتها في مراكزها وتقليدها في الأطراف. إنّ علم السياسة الذي لا يورث حامله نباهة ورويّة، هو مظهر من مظاهر ما سمّيناه بالجهل “التّعلّمي”، كالحمار يحمل أسفارا..
ابتكار عدوّ أبدي وفق منظور كارل شميث، يربط الظاهرة السياسية في العلاقات الدّولية بغريزة التضليل والعدوان، الغريزة التي رافقت الظاهرة السياسية بوصفها غُلبا. تبدو الطوبا علاجا تفاؤليّا لخيبات الأمل، ولاجتماع سياسي لم يظفر بالعدالة قطّ. التراتبية التي تستند إلى العلاقات الدّولية، هي ذاتها التراتبية الداروينية الغابوية: الأقوى هو من يفرض القانون.
يتراكم العدوان حتى يبلغ ذروته لتتفجّر الهمجية العارية من دون مساحيق القانون الدّولي، الذي جاء ليعزز نظاما دوليا غير منتظم على أساس العدالة الدولية. إنّ العنصر الدارويني هو الحاكم الفعلي للسياسات.
حتى مفهوم المصلحة لا يكفي لإنتاج فهم حقيقي لتناقضات المشهد الدّولي، هناك فقط الكراهية والعنصرية والغُلب، أي الطبيعة الأولى للافتراس.
اليوم كلّ شيء له مفهمة تخفي طبيعته الأولى في العلاقات الدّولية، ولكن المشهد لن يستطيع المضيّ إلى الأبد في تاريخ ممتدّ من التضليل، فالهمجية ستخرج عن السيطرة، والإنسان المستذئب ستفضحه أنيابه التي تقطر دما، كما هي مؤشراته واضحة اليوم في غزة.