آراء

رحلتي الفكرية

لا عجب أن علَّم ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث مكذوب، ليقول له في النهاية إذا مرت عليك فانتبه لها فكلها أحاديث مكذوبة..

أنا رجل ولدت في مدينة اسمها (القامشلي) في أقصى شرق سوريا ظهرنا للعراق وخاصرتنا لتركيا ووجهنا باتجاه حلب ودمشق وحوران. فيها عشر لغات، وثماني أديان، بما فيها المسيحية المنقرضة (النسطورية)، وعشرين لهجة بين سريان وأرمن وآشوريين وطخلركه وكرمنج وشيعة، وماردليين وداغستان، وشمريين وعلوية، وشراكسة وشوام وحلبية وحوران، ودروز وكلدان، وكاثوليك وبروتستانت، ومحلمية وعبدة الشيطان من اليزيديين (هم غير الزيديون من أهل اليمن).

وطبعا أي اليزيديون هم لايسمون أنفسهم أنهم عبدة الشيطان بل لهم فلسفة لاتخلو من معقولية عن تفسير الشر في العالم أن الشيطان يحكم العالم لفترة عشرة آلاف سنة واسمه طاووس ولذا يتجنبونه خوف بطشه وشره فلا يتعوذون بالله من الشيطان الرجيم (كانت مشكلة في البرلمان العراقي حين تعوذ أحدهم فضاقوا به ذرعا واعترضوا) ويتجنبون أي كلمة فيها شين وطاء مثل مشط وطشت وشاط وطاش ومطاش وشطيح. ويمكن حبس إي انسان إذا رسمت حوله دائرة فلا يخرج مالم يأتي أخر فيمسح طرف الدائرة فيخرج! ولكن هل هم الوحيدون المعقتلون فكريا في دوائر من هذا النوع؟ وهكذا فالقامشلي المدينة العجيبة التي ولدت فيها سريالية كل شارع بلغة ومدرسة وكنيسة، وكل دكان بطربوش وطاقية وعمة وعقال وشرشوبة وشروال؟؟ كأننا في هوليوود في فيلم تاجر البندقية !!

(والدي) توفيق جلبي اعتمر الطربوش العصملي الأحمر، وخالي (يونس) من عشيرة طيء بعقال؛ فقد تزوج جدي من (أم فارس) شيخة مهمة من العشيرة، وخال آخر طلعت جاء من فتاة أرمنية تزوجها جدي الذي تزوج مثنى وثلاث ورباع؛ منها تركية من مدينة سامسون من البحر الأسود اسمها عائشة ومنها جاءت والدتي جاهدة، وهكذا فأنا مزيج من شعوب البحر المتوسط وبحر قزوين والأسود وبحر أيجا والمتوسط وجبال طوروس وكردستان، كما أظهرت ذلك أيضا لطخة الـ DNA عندي؟

أما قصة (سميحة) أم طلعت وهي أرمنية (ولم تذكر لنا اسمها الأرمني الأصلي؟) كنت أراها تصلي الصلوات الخمس ولا تذكر من نكبة أهلها في تركيا شيئا سوى أنني كنت ألاحظ في عينيها العبرات تترقرق في المآق حين تذكر أمها.

كانت تقول فصلوني عن أمي وتوسلت الى القوم أن يحافظوا على أخي وكان لها ذلك. أما أخوها الذي نجا معها فقصته أعجب؛ فقد تبنته عائلة من بيت البيطار في دمشق. وأنا شخصيا اجتمعت به وعائلته الشامية الجديدة خاصة حين كنا نهرب من حر القامشلي إلى مصايف دمشق في بقين ومضايا والزبداني.

وأصبح أخوها (أبو عدنان) رجل ميكانيكي لتصليح السيارات وهي صنعة لبوس للأرمن حيث حلوا وارتحلوا وكأنها في جيناتهم. ومن أم عدنان الشامية ولد له وصال وحنان وامتثال وزياد، ومن البنت الكبرى امتثال جاء غلام اعتنق التدين الشامي، ثم أصبح من الحزب القومي السوري الذي يؤمن بسوريا الكبرى، وهذا الحزب أنشأه نصراني اسمه (انطوان سعادة) اتهم بقتل رئيس الوزراء اللبناني (الصلح) فانتهت حياته على المشنقة (يمكن مراجعة كامل القصة في الجوجول؟).

وإجتمعت بابن امتثال هذا في مؤتمر في بروكسل وكان مع رجل كنيته (شقرا) هو رئيس الحزب القومي السوري الاجتماعي وأنا أتأمله متعجبا من تصاريف الزمن من أرمني إلى صوفي إلى قومي واتعجب. وكما أشرت فخالي طلعت كانت أمه من أصول مسيحية أرمنية من أيام (القفلات = القوافل من طوابير النقل الجماعي الذي قامت به الدولة العثمانية بعد التمرد المسلح في شرق تركيا) وهو لا يعلم، أو يعلم ولا يصرح، وهي تلك الزيجات التي تمت أثناء الترحيل القسري للأرمن من تركيا في عشرينيات القرن الفائت، ففاز البعض بالفتيات الجميلات، وهن نجون من التشرد والدعارة، فأسلمن والانسان ابن بيئته ومحيطه، وقصص التاريخ مرة حزينة. ومن أعاجيب الدهر أن خالي طلعت هذا اصطادته شبكة الحزب القومي السوري.

ولما جاءت ساعة الفصل مع اغتيال الضابط عدنان المالكي البعثي في دمشق وقعت المقصلة على رأس الحزب في سوريا وكان خالي طلعت (اسم تركي) مع طلائع المعتقلين (الذي هو نصف أرمني) فقام جدي شيخموس بتكليف محامي للدفاع عنه والإفراج، وما زلت أتذكر زيارتنا له في سجن المزة العسكري يوم كان ثمة قضاء ومرافعات في سوريا وحبوس محدودة، وسجن المزة بنته فرنسا لكن الأسد حول سوريا كلها الى سجن مزة بحجم سوريا.

وأنا شخصيا دخلته وكان هذا اعتقالي الثاني من أصل أربع اعتقالات، سوف يلحق بعد اعتقال سجن المزة اثنان على أقبح، ولكن في النهاية فعلت ما فعل ابراهيم عليه السلام فودعت ديار البعث إلى يوم البعث. مازال في ذاكرتي يومها رؤية لغسان جديد وهو علوي (هم غير علوية المغرب ويطلق البعض عليهم كلمة نصيريون نسبة لمؤسس المذهب نصير) من الحزب القومي السوري نظر إلينا وقال ابنكم مشكلته بسيطة أمام وضعي ولم أعرف مصير الرجل؟ وهو عينة حزينة من ظروف الصراع تلك التي دخلتها سوريا بين أحزاب شتى حتى أصبحت مزعا مزعا.

لذا لا غرابة عندي إن ناقشت أرثوذكسيا عن سبب انشقاق الكنيسة عند صدع البلقان على طبيعة الآب والأبن والروح القدس، ومن أين اشتق روح القدس هل من الآب أم الابن أم من كليهما معا؟ أو كاثوليكيا لماذا يرسمون صدورهم بالصليب وهي أداة قتل المسيح؟ وهل يقدس أهل القتيل المسدس الذي قتل به ولدهم؟ وهي قضية يحتج بها أتباع شهود يهوه الذين اجتمعت بهم في ألمانيا وهي فرقة مسيحية نشيطة جدا يطرقون البيوت ويقفون في الأماكن العامة يعرضون منشورهم برج المراقبة بالألمانية Wach Turm). )

كنا نحتفل معهم في أعياد الميلاد، كما نحتفل برمضان والضحية، وجوزيف خوري بدكانه الملاصق لدكان والدي المختص ببيع العرق والويسكي وكل أنواع الخمر المعتقة؟ وأصدقائي رافع أبو الحسن الدرزي، وهابو وأخوه جيجي الأرمني (غالبا جورج)، وجودت وابن أخيه سمير العلوي، وجورج ابن الصائغ الكاثوليكي، ودنحو السرياني (الوزير الحزبي الذي اجتمعت به أثناء الإمساك بي في درعا يوما).

ومروان شريف الماردلي (الشارد من البعث إلى الطليان لاحقا) من نفس ملتي، قبل أن يرسخ حزب البعث الطائفية ليوصلها إلى الحرب الأهلية. وهي شروخ مثل الجروح المفتوحة تحتاج دهرا للالتئام وليس دون ندبات مشوهات؟

هكذا كان حالي ثم عاشرت التيوتون من الجرمان وهذه لها قصة تفصيلية أخرى، وهناك في ألمانيا التي كان اسمها الغربية يومها رأيت مدى الاحتفال بعيد الميلاد، كما هو الحال في كندا التي اكتب منها اليوم، وعرفت يومها معنى العيد الذي هو مناسبة اجتماعية. كنا نحاول الاحتفال بعيد الفطر والأضحى ولكن ناشفا بدون بهجة، كما كان الحال عندنا في القامشلي حين نستفتح العيد بزارة جدي فينفحنا بليرة فضية كان لها قيمة (يومها كان الدولار ثلاث ليرات وهو اليوم 14700 وهو يفسر مدى نهب البلد على يد العائلة الأسدية ـ المخلوفية، وسوف تتحول الليرة السورية إلى ما حدث لليرة التركية يوم هبط الرقم إلى المليون أمام الدولار حتى انتعش مع قدوم غير الفاسدين لقيادة البلد.

أخيرا حطت بي الرحال في بلاد السلفية والوهابية فرأيت العجب؛ وأفهم هذا لأنهم مثل طيور البطريق إذا اجتمعوا في الانتراكتيس (القطب الجنوبي)، فلا يفرقون عن بعضهم في عقال وغطرة ودشداشة، ولأنهم محرومون من الرؤية الفراغية، والتباينات المذهبية، فلا يتصورون إلا لونا واحدا من الطعام واللباس؛ الكبسة والعباءة والغطرة.

وأذكر في يوم من أيام عيد الميلاد، كيف تربص (الشباب الطيبة = مطاوعة ومتطوعة) بمجموعة من الممرضين والممرضات الفيليبينيين، فكبسوا البيت عليهم عسى أن يضبطوهم متلبسين بالجريمة النكراء وهم يحتفلون بعيدهم الذي احتفل به أجدادهم من قبل، ويحتفل به أهلوهم في كل مكان.

إن الشباب الطيبة من المتعصبين المتشددين، يرتكبون ثلاث جرائم دون أن يشعروا برائحة جريمة؛ التجسس على القوم، ودخول البيوت من غير أبوابها، واقتحام الخصوصيات من غير استئذان، وأخيرا نار التعصب لظى نزاعة للشوى. والله حرم التجسس، وحرم الاقتحام، وأمر بالاستئذان والرحمة والمرحمة. ولكن بيننا وبين هذه المفاهيم الإنسانية مسافة قطر المجرة مائة ألف سنة ضوئية!!

وفي النقاش الذي دار فيما أذكر بين جيمس سواكرت وديدات قال له؛ سمحنا لك بالتبشير بالإسلام هنا في بوسطن وفيلادلفيا ونيوجرسي؛ فهل يمكن أن تعاملونا بالمثل فنعرض أفكارنا بين أظهركم كما فعلتم بنا؟ كان جواب ديدات ـ رحمه الله ـ نعم حين تحصل على تأشيرة دخول لبلدنا، وهي أن تعلن إسلامك؟؟ والأمر يصلح للنكتة وليس للنقاش؟؟ وحاليا خليفته النايك يكرر نفس الخطيئة على أقبح والجمهور يصفق له ويفرح؟ والله يقول ولا تخاطبوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، ونحن حريصون على أن نخاطبهم بالتي هي أسوأ..

وفي يوم عيد الميلاد المجيد بدل أن نهنئهم ونبذل لهم المعروف؛ فإننا جدا حريصون على اعتباره بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار؟ أما رفع الرايات والصور في عبادة الشخصيات فليست بدعة، والفتوى جاهزة بمعول يناسب فتحة هدم الإسلام..

وهكذا فلا يجوز مبادأتهم بالسلام، وإذا كنا في طريق يجب أن (ندفعهم) على جنب، ونجبرهم إلى أضيق الطريق، وتحويل حياتهم بيننا إلى جحيم وعداوة، تحت أحاديث مشبوهة عرجاء برصاء شوهاء عوراء.. .. لا عجب أن علَّم ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث مكذوب، ليقول له في النهاية إذا مرت عليك فانتبه لها فكلها أحاديث مكذوبة..

https://anbaaexpress.ma/1t4lf

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى