مدخل تعريفي
خمس أسئلة تحاصر الأستاذ الشاعر القدير عالِم عبَّاس محمد نور عبر مسيرته الطويلة في مجال تجربته الشعرية والإدارية رئيساً لاتحاد الكتاب السودانيين لدورتين على التوالي، وهو صاحب ثمانية دواوين شعرية منها: (إيقاعات الزمن الجامح – مصلحة الثقافة – وزارة الثقافة والأعلام 1974 منك المعاني ومنا النشيد 1984 أشجار الأسئلة الكبرى – دار جامعة الخرطوم للنشر) تتسم ما بين الشعر الثوري وشعر المناسبات والشعر الوطني وليست ببعيدة عن القضايا العاطفية باعتبار العاطفة هي أساس كتابة الشعر للنفس البشرية بلا شك.
عالِم عبَّاس محمد نور عالِم من مواليد العام 1948، ولد بمدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور وتخرج في جامعة أم درمان الإسلامية 1972 نال جائزة الشعر الأولى للشعراء الشباب 1973، ونال وسام الدولة للآداب والفنون فبراير 1979.
أول مرة قابلته فيها في تأبين الراحل المقيم القاص والروائي الأستاذ صديق الحلو؛ بالقاهرة بتاريخ 23 / 4 / 2024 بمعية الأستاذ الممثل القدير علي مهدي نوري، الأمين العام السابق لنقابة المهن التمثيلية؛ قبل بداية التأبين.
ولم يدر بيننا أي حوار خلاف لحظة التصوير والتوثيق وكان أن استأذنته بأخذ صورة لي معه؛ وبالمناسبة هو رجل حبَّوب للغاية ومتواضع حد الثمالة وأنيق جداً “وونَّاس بالجددددددد”؛ عرفته عن قرب لخمس دقائق لا تغني لطالب البحث عن قامة مثله لمثلي فتيلاً؛ وكانت المرَّة الثانية التي ألتقيه فيها بمدينة نصر بالقاهرة عند جلسة استماع لتجربته التي أكتب إليكم عنها الآن والتي استمرت لأكثر من سبع ساعات متواصلة مع قليل من الشاي السادة الذي يعشقه مثلي إذ أنا الآن أكتب بمعية الشاي السادة بقهوة بورة بشارع لاشين حي فيصل الجيزة وذكرتها بمناسبة ادمانه للشاي السادة الذي لم يتناول منه الكثير فحرمنا متعة السرد المشوِّق لتجربته رغم طول السبع ساعات بلا انقطاع.
الأسئلة كالآتي:
1 / دور الشعر في تغيير الخارطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
2 / الشعر السياسي وأصناف الشعر في كتاباتك .
3 / علاقتك مع الأستاذين: فضيلي جماع وكمال الجزولي.
4 / دور إتحاد الكتاب السودانيين المعاصرين في ترقية الذوق العام.
5/ قصيدة هدوء، الخلفيات والمقاصد.
فكرة المؤانسة
بغض النظر عن الإتجاه الثوري التجديدي في الشعر باعتباره تياراً حداثوياً أو غير حداثوي من ناحية عامَّة إذا قارنت بين شعر عالِم عبَّاس وبين شعر مصطفى سند فالاثنين أسلوبهما الشعري إن لم يكونا قريبان من بعضهما فهما متقاربان من ناحية النَّفَس والأسلوب وما يختلف بينهما هو الخط الشعري للقضية المطروحة.
فعالِم عبَّاس خطه الشعري ثوري وطني قومي متعدد الأغراض ذي نَفَسٍ واحدٍ أو قل بصمةٍ واحدةٍ تختلف بإختلاف المواضيع حتى في رثاءه للأستاذ الشاعر والكاتب المعروف كمال الجزول تجد في عمق رثاءه له ذكر للوطن وللثورية وهلم جرا ؛ بيننا تجد بذات النَّفَس الشعري عند مصطفى سند المختلف عن عالِم عبَّاس الأسلوب الرمزي المحض أو شبه المحض؛ ذلك لإختلاف فكرة كتابة النص بينهما لاحظ قول سند في قصيدته “سيدة النساء”:
يا صندل الليل المضاء .. أفرد قميص الشوق حين تطل سيدة النساء
فالمجد جاء .. وتناثر الأحد الصبي يهز أعمدة الغناء
لو زندها احتمل الندي .. لكسوت زندك ما تشاء
ثوبا من العشب الطري .. إبرتين من العبير وخيط ماء
ما هو العبير المنسوج المخيط من العبير، ثم ما هو خيط الماء؛ إلى ماذا يشير ويريد ولماذا تركيب الشعر تركيباً رمزياً؛ لماذا لا يكون واضحاً مبنىً ومعنىً ؟ أنا لا أملك إجابة.
هذا ! الإنتماء الشعري ذي الحداثة المعاصرة أو المتأعصرة بالنسبة للخط الثوري لمدرسة الغابة والصحراء { تأسست كرابطة ثقافية في جامعة الخرطوم عام 1962 باسم مدرسة الغابة والصحراء وضمَّت بعض طلاب الجامعة وخريجيها وفي طليعتهم النور عثمان أبكر، ومحمد المكي إبراهيم ومحمد عبد الحي ومحمد المكي إبراهيم ويوسف عيدابي وعبد الله شابو } الذي نسبه بعض النسابة في الشعر – مصطفى سند – والذي أنكر انتماءه لمدرسة الغابة والصحراء جملة وتفصيلاً ؛ أنا سمعته شخصياً ينفي هذا الإنتماء رغم ما يثبته شعره – راجع مقالة مطوَّلة هنا للأستاذ إحسان الله عثمان بالفيس بوك لذات الموضوع – حينما نسبه الأستاذ إحسان الله عثمان؛ للتيار الثوري لمدرسة الغابة والصحراء التي اتخذت من قضية الهوية الوطنية السودانية في مطلع ستينيات القرن العشرين 1967 – مبعثاً للانتماء الوطني والتعريف به محلياً واقليمياً ودولياً؛ والأمر ليس كذلك؛ حين وجب على الباحث في دراسة الشعر التفريق بين الأساليب والأغراض لكل شاعر منفرداً عن الآخر.
قال عالِم عبَّاس:
وطنٌ يُبَاعُ ويُشْتَرَى وهَلُمَّ جَرَّاً
كانت تنامُ على وسائدِ شَوْكِهَا
والقهْرُ يوخِزُها
فتوقِظُها الهواجسُ
والكوابيسُ التي تطفُو كمثلِ الطفحِ في وجهٍ جميلْ
و مضَتْ تُكَتِّمُ في مَشِيمَةِ حُزْنِها الدَّامِي
جنيِنَاً أرّقَتْهُ الفاجعاتُ وأجْهضَتْهُ
وفي تصبُّرِهَا العنيدِ أتَتْ بهِ تَحْمِله
وانتبذَتْ به ركْنَاً قصيّا
مرّةً أخرَى، وثالثةً
وكان الخوفُ أنْ يصلوا
ولمّا ينقضي الليلُ الطويلْ
كدأْبِهَا انتظرَتْ فأثمرَتِ الْمَخاوفُ عن رجال (الأمن)
دسّوا في المشيمةِ
( ميكرفونا) هامِسَاً
وبَقَوْا هنالك راصدين وحاقدين يسجِّلون
حياتَهُ
حركاتِه
سكناتِهِ
والحزنَ والنبضَ الضَّئِيلْ
في حبْله السُرِيِّ أجْهِزةُ التنَصُّتِ
كالشرايين التي انتَشَرتْ
فَأضْحَتْ كالنَّواشِرِ فوق
ظهر المِعْصَمِ المَعْروقِ
في الجسد الهزيلْ
حتّى إذا مدَّتْ ذِراعاً أبيض للنيلِ
كان النيلُ في الرمقِ الأخيرِ
يُصَارعُ المَجْرَى
الذي
قد صار قَبْراً بالذي يجري
وليس الماءُ ما يجرِي
لهذا صار هذا النيلُ
قبراً أزْرق يتوسَّطُ المجرى فينتحبُ النّخيلْ
وتسلّلوا كالنّمْلِ فوق الرَّمْلِ
الشاعر عالم عباس مع الكاتب بدر الدين العتَّاق
لبعض الباحثين والناقدين لمدارس الشعر الحديث أو القديم؛ الحق في الرأي لما توصلوا إليه من نتائج لمقدمات مستخلصة من استنباطهم للقصيدة واتجاهاتها المعاصرة كلٌ حسب وقته؛ وهذا الرأي مكفول بطبيعة الحال لكن ينبغي الإحاطة بأمرين اثنين هما : تأثر الشاعر بالبيئة وتأثير البيئة على الشاعر؛ وبينهما خيط رفيع؛ مثلاً : الشاعر مصطفى سند (1939 – 2008) لم يتأثر بقضية أصحاب مدرسة الغابة والصحراء حيث تشير أشعاره لذلك كما ورد سابقاً راجع ديوانه “البحر القديم” وبقية دواوينه.
وما يؤكد ذلك اتجاه شعر سند للغناء والتطريب أكثر منه للقضايا الوطنية وبالتحديد قضية الهُويَّة الوطنية السودانية؛ أنا شخصياً لم أجد ربما هو موجود في دواوينه الشعرية، الله أعلم / ما هو اهتمامه بذلك وهنا تدخل قضية التفريق بين تأثر الشاعر بالبيئة وتأثير البيئة على الشاعر، وذات الأمر مع الأستاذ الأديب المرحوم البروفيسور علي المك (1937 – 1992) الذي تتجه كتاباته الأدبية نحو الترجمات والفنون والإعلام وشيء من كتابة القصة القصيرة والرواية؛ راجع كتابه “حمى الدردبيس” وكتابه “مدينة من تراب” ثم برامجه الإذاعية وخلافه لتجد صحة ما ذهبنا إليه إن شاء الله.
قال سند فيما يغنيِّه الأستاذ الفنَّان محمد ميرغني:
عشان خاطرنا خلى عيونك الحلوات تخاطرنا
ولما تمرى ابقى اقيفي واسألي عن مشاعرنا
زمان غنينا لي عينيك أغاني تحنن القاسيين
وهدينالك معزتنا مشينا وراك سنين وسنين
وبنينالك قصور بالشوق فرشنا دروبها بالياسمين
قلنا عساك تزوريها
ترشى البهجة في ساحاتها
بي عينيك تضويها
حلاتك وانت ماشة براك شايلة الدنيا بي اسرارها وبالفيها
زمان بارينا ضحكاتك
لقينا صداها جاي معاك وجايينا
وحاتك تاني لم تفوتي ابقي اقيفي سالمي الناس وحيينا
كفاية علينا لما نشوف بسيماتك تصابحنا وتمسينا
عشان نتملى من عينيك
عشان نلقى الصباح مسحور يعاين لي صباح خديك
جهرتي الدنيا يا دنيتنا يا روعتنا ما هماك جهرتينا.
ثم أمر آخر هو عدم استمرارية شعر مدرسة الغابة والصحراء لأكثر من عقد من الزمان من ناحيتي النظم والقضية؛ ورغم ذلك استمر الأسلوب في نظم الشعر يحاكيها لمن جاء بعدهم مثل شعر الأستاذة الإعلامية روضه الحاج محمد؛ عش القصيد: صدر في ست طبعات بين عام 2000 تاريخ أول طبعة إلى 2011 آخر الطبعات، والأستاذ الشاعر الدكتور معز عمر بخيت “وطن بحجم التوبة”؛ وعبد القادر الكتيابي؛ وديوانه “هي عصاي” والشاعر الأستاذ / عبد المنعم الكتيابي؛ وديوانه “ضد ذاكرتي” وهلم جرا؛ الذين اتخذوا من أسلوب نظم وكتابة وفن القصيدة وفن الإلقاء من مدرسة الغابة والصحراء؛ لكنهم – في تقديري الشخصي – لم يتخذوا قضية الإتجاه الثوري أو التيار الحداثوي لها قضية موازية أو امتداد لها؛ بل كل واحد منهم وضع بصمته الخاصة به في طريقة نظم الشعر وأغراضه ومواضيعه بعيداً عن الإنتماء لتلك المدرسة مما يمكن أن يُقال صراحة بتكوينهم مدرسة حداثوية جديدة هي مدرسة “التحرر الشعري من القافية والقصيدة العمودية” ولا أقول بمدرسة شعر التفعيلة أو الشعر الحر وإن كانت تميل لذات المعنى لكن بطريق آخر.
فتلك مدرسة لها تاريخها الذي ولدت فيه؛ راجع كتابنا “قبضة من أثر الأديب” لمزيد من المعلومات في هذا الباب.
عالِم عبَّاس محمد نور؛ يتفق مع غيره في حقبة زمنية معينة في تكوين مدرسة الشعر الثوري ذي النَّفَس الطويل وأغلب الظن برز شعره في بهذه الطريقة في الثلاثين سنة الماضية لكنه كتب الشعر قبل ذلك بكثير جداً بكل تأكيد.
أنا هنا أتكلم عن خط شعري نظمي حداثوي جديد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة ونظام الحكم في السودان ولا أتكلم عن شعره وكتابته له بعامَّة بل بخط تبنَّاه بعينه داخل فكرة النظم والغرض وهو المعارضة السياسية لنظام الحكم في السودان لفترة حكم الإسلاميين للسودان تحديداً ؛ هو الذي أخرج من مكامن نفس عالِم عبَّاس محمد نور هذا الخط المعارض للسياسة في قالب شعري وجب الوقوف عنده بلا شك، قال:
صار النيلُ يبصقُ ضفَّتَيْهِ تِقَيُّأً
في المقرن المجدور
والخرطومُ ترفلُ في تهتُّكِها الرخيصِ دعارة
وبَدَتْ لها سوْآتُها الكُبْرَى
وليس ثمّةَ
مِنْ حياءٍ ما يوارِي سَوْأَةَ الوطنِ القتيلْ
وتجسَّمتْ في الليل أشْبَاحٌ بدتْ فيهم ملامِحُنَا
فهم أشْباهُنَا
وحصادُ ما اكتسَبَتْ أيادينا
وهُمْ أوْزارُنا
فاحتْ نتانَتُهَا
فأغْرَتْ مِن ضواري الليل والآفات
من كل
النفايات التي يأتي بها ليلاً غُثَاءُ السَّيْلْ
ألا
مِنْ أيّ أْركانِ الظَّلام أَتَوْا
وكانوا أوّل الفجرِ الّذي لم نَنْسَ مقدِمَهُمْ
بدَوْا
مُتَجَمِّلين
على الوجوه براءةٌ
حتى ظنّنّاهم ملائكةً
وقدّيسين أطْهاراً
وما كَلّوا عن التسْبيحِ والترتيلْ
وأنْشدْنَا جميعاً خلفَهُم قُدّاسَ عيدِ المجدِ والبُشْرى
تُرَى ما بالُنا حَلّتْ عليهم
أو علينا لعنةٌ
صاروا وحوشاً واسْتبَاحوا لحْمَها
شربوُا دِماها قَبْلَ قُرْصِ الشمسِ تنْزِعُ
للأفولْ!
من أين جاءت هذه الديدانُ ناهشةً
لناخرِ عظْمِها أو ما تَبَقّى مِنْه
ما اكْتَنزَتْهُ يوم
اليُسر للعُسْر الذي يمتدُّ جيلاً بعد جيلْ
إرْثَاً من الأخلاقِ
والنُّبْلِ المُضَاعَفِ نسْجُهُ
وحلاوةِ الإيثارِ
نَجْدةَ غيثِ الليل
والمُسْتصْرِخِ الملهوفِ
سِتْرِ نسائنا
وحمايةِ الجار البعيدْ
تبّاً لهُمْ
تبّاً لنا
من أيّ لعناتِ السماءِ وسخْطِها حَلّتْ بنا ؟
صار الفخارَ العارُ
صار العارُ غاراً
ثم أُبْدِلَتِ المَكارِمُ خِّسةً
أضحى التّنافسُ جُرْأةً
في هتكِ عِرْضِ الجارِ أقْربُ ما يكونُ
وأكْلُ مالَ السُحْتِ
مِن أفواهِ أطفالٍ تَهَاوَوْا في
المجاعات التي تمّتْ مُتاجَرَةٌ بها
مُتَسَوِّلٌ يَفْتَنُّ في إبرازِ عاهَتِهِ ليَسْتَجْدِي الفضولْ
أَ ذَا هُوَ الوطَنُ ؟
أم ذا هو الكَفَنُ ؟؟
أنا لا استبعد ذات الأسلوب والغرض الشعري عند الشاعر فضيلي جماع؛ لاجتماعهما في فكرتي المعاصرة والقضية تعبيراً شعرياً ثورياً وطنياً واضحاً؛ وذكرت ثلاثتهم:
فضيلي جماع؛ وعالِم عبَّاس؛ وكمال الجزولي؛ لأنهم متعاصرين أصحاب قضية واحدة في وقت واحد وهذه القضية هي المعارضة السياسية لنظام حكم الإسلاميين في السودان مما يعني أنَّ لهم اتجاهاً وفكراً معيناً تجاه القضايا السياسية ومعالجتها؛ وفي ذات الوقت تختلف – أقَلَّاها بالنسبة لي – عن قضية الهوية الوطنية السودانية لمدرسة الغابة والصحراء؛ غرضان مختلفان بأسلوبين مختلفين؛ يتفقان على نَفَسٍ واحدٍ في أسلوب النظم والكتابة هو مدرسة “التحرر الشعري من القافية والقصيدة العمودية” وكلٌ له قضيته وخطَّه الإصلاحي؛ وما يهمني هنا في هذا الموضع هو النص الشعري من باب التجديد التلقائي في فن كتابة الشعر ونظم القصيدة لا غير.
هل الأستاذ الشاعر الكبير عالِم عبَّاس محمد نور، يعتبر رائداً لمدرسة التجديد الثوري لفن كتابة ونظم القصيدة الثورية المعاصرة أم هو أحد روادها الذين تبنوا خط الإصلاح الجذري الاجتماعي من طريق السياسة أم هو امتداد لمدرسة الغابة والصحراء ؟ قبل أن أجيب على هذا التساؤل نذكر طرفاً من قصيدته، قال:
جعلوك قبراً للنفايات التي يوماً
ستقْبُرُنا
وتُهْلِكُ نَسْلَنا وتنالُ مِنَّا
يا أيُّهَا الوطنُ الذي اغتالوكَ سِرّاً
يا أيها الوطنُ المُبَاعُ المُشْتَرَى وهَلُمَّ جَرَّأً
من أيّ أصقاعِ الجحيم تلوحُ صاعقةُ العذابِ الهُونِ عاصفةً حُسُوما ؟
ليس فينا قومُ عادٍ
لا
وما كُنّا ثموداً
نحنُ لم نعْقِر النّاقةَ يا قومُ
ولا الوادي إرَمْ
لكنّما هيهاتَ أنْ يجدِي الندمْ!
أ ذا هو الوطنُ الذي في ساعةٍ
(كرري) يُقدِّمُ مَهْرَهُ الدّمويّ في رأْدِ الضُّحى
عشرةَ آلافٍ من الفرسان
يَنْشَقّون في ساحاتِ عُرْسِ المجد
نِيلاً أحمر في موْجِه
يَتَأَصّلُ الوطن الأصيلْ
أ ذا هو الوطنُ؟
أودتْ بهِ الإِحَنُ!
وهُوَ الذي كان ( الخليفةُ ) في المُصَلّى رابِضَا كالّليثِ
مُؤْتَزِراً وِشاحَ الصّبْرِ
والإيمانِ يَفْنَى صامِدَاً في الذَّوْدِ عنهُ
يمينُهُ ألقُ الفداءِ
وفي شمائِلِهِ الجَّسارةُ والشهادةْ!
إنْ كان ذا الوطنُ
فما هو الثمنُ ؟
أَ هُوَ الذي ( دينارُ ) وَطّنَ نفْسَهُ في الجانبِ الغربيِّ مِنْهُ
ليستعيدَ بمؤمنينَ تَدَرّعُوا
عزْماً وصبراً في البلاءِ
وأقْسَمُوا يردُوا المنونَ حياضَها
أو يدْرِكونَ الثّأْرَ لليومِ
الجليلْ
أم ذلك الوطنُ الذي ( عثمانُ ) في شَرْقِيِّهِ أسداً يُزَمْجِرُ فاتِكَاً فيَدُكّ صرحَ البَغْيِ
حِصْناً بعد حصنٍ، خلْفُهُ
“الله أكْبَرُ”
صرخةٌ تَعْلُو فيرْتدُّ الصّدَى حِمَمَاً تُدَمّرُ سطوةَ
البَاغي الدخيلْ
كأنْ لمْ يأْتِ للوطنِ المُبَاعِ سبيّةً
زمنٌ مِنَ التاريخِ كانتْ رايةٌ زرقاءُ خافقةً على
( سنّار )
خيلُ العِزِّ تركضُ في مرابعها
ومنْ فرسانها ) بادي( بكلِّ شموخِهِ
و( شلوخِهِ )
وجسارةُ ( الزاكي )
ونصرُ ( عمارة الفونجِ ) العريقِ
ومَكْرُماتِ الموتِ
في شرَفِ القَبيلْ
عجباً
ولكِنْ كيف هانَ وكيف هُنّا!
والأمسُ ذاك
فكيف كُنّا؟
إذاً هو الكفنُ؟
أم ذا هو الوطنُ ؟
في جوفه تتلاقحُ المِحَنُ!
وما هو الثمنُ ؟
دعني أقول: عالِم عبَّاس ليس رائداً للمدرسة التجديدية الشعرية ولكنه أحد روَّادها بلا شك؛ ثم هو ليس امتدادا بأي حال من الأحوال لمدرسة الغابة والصحراء، وهو في ذات الوقت وآخرين معه كانت قضيتهم ثورية وطنية تجديدية في أسلوب الخطاب الإصلاحي الاجتماعي المؤسسي من طريق الشعر نحو إصلاح السياسة والثقافة وما يتبع وبذلك لا يمثِّل – أكرر وأقرر – أي امتداد لغيره من المدارس الشعرية السابقة لاختلاف مستقى المعرفة فيه ولاختلاف طريقة تناول القضية الموضوعية شعراً وإلقاء وبطبيعة الحال الظروف التاريخية المعاصرة والقضايا الملحة على عاتق الشاعر أو الناثر وطرحها وطرح البديل لها حسب وجهه نظره الشخصية أو الجماعية لكل عصر ولكل ظرف تاريخي وللسامع المتلقي حق الرفض أو القبول لكن يظل فن النظم والمنثــور أمر قائم بذاته.
أنا سمعت إلقاء الأستاذ عالِم عبَّاس منه شخصياً لشعره، كما سمعت إلقاء الأستاذ مصطفى سند؛ شخصياً لشعره، في أكثر من محفل، وغالباً ما أعجبني أسلوب السجع والاتكاءة على تنميط موسيقا وجَرْسِ الشعر عند نهاية المقطع.
بغض النظر عن فهمي لمرماهما من عدمه لكن أقرب فهماً للغرض الشعري لدى عالِم عبَّاس من مصطفى سند، ذلك لنفوري التام للرمزية المنتهجة لسند – رحمه الله رحمة واسعة – بينما انسجم جداً لشعره الغنائي أكثر من شعر عالِم عبَّاس والمسألة تذوق مخاطبة غرض المتلقي من غرض الناظم ، قال:
من قبلُ يا وطنَ الشّموخِ المُشْرَئِبِّ سماحةً
تنداحُ من كفّيك معجزةٌ
فتعتشبُ
الروابي معجزاتْ
هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ
معجزةً تطهّرُنا بها
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا
من رجْسِها
حتى تصالحَنا السماءُ
وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
قلت أول هذه الكلمة : خمس أسئلة تحاصر الشاعر عالِم عبَّاس محمد نور؛ خلال مؤانسته لنا هنا في القاهرة، اختصرت منها اثنين لأنَّه ذكرهما خلال حديثه العذب هما:
1 / علاقته مع الأستاذين الكبيرين: فضيلي جماع؛ وكمال الجزولي؛ وقد أفاض فيهما وأكثر بحيث يغني عن الإعادة ههنا فيمكن مراجعة حديثه عنهما على اليوتيوب لمزيد من المعلومات.
2 / دور إتحاد الكتاب السودانيين المعاصرين في ترقية الذوق العام وتجربته الإدارية فيه وما انبثق عنه لأجسام إدارية أدبية أخرى؛ فقد تمت الإجابة بإسهاب على هذه الأسئلة ويمكن مراجعتها حيث أشرنا.
بقيت ثلاث أسئلة؛ هما:
1 / تأثر الشاعر بالبيئة وتأثير البيئة على الشاعر؛ وكانت اجابته: لا ينفصل الشاعر عن بيئته ولا عن قضاياهم الحياتية بحال من الأحوال؛ والعكس صحيح.
2 / دور الشعر في تغيير الخارطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وتمت الإجابة عليه من خلال السياق العام للمقال.
3/ الشعر السياسي وأصناف الشعر في كتاباتك ، وقد أفضت في التعريف طي هذه الكلمة لكن الوقت لم يسمح لنا بتلقي الإجابة منه، قال:
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ
تقشّعتْ ظلماتُ هذا اللّيلِ
اخْرِجْ كفَّكَ البيضاءَ يا وطني
وأسْكِرنَا بمعجزةٍ تعيدُ لنا
الحياةَ ويستفيقُ الروحُ في الجسد العليلْ
كانت تئنُ على وسائدِ شوكها والقهرُ يوخزُها
ويُقْعِدُها التوجُّسُ
هلْ ستُوْقِظُها طبولُ العِزّ بعدَ سُبَاتِها زمَناً
وما نامَتْ
وها هِيَ ذِي تُجَددُ معجزاتٍ
طالَمَا عُرِفَتْ بِهَا دوماً
لِتَنْهَضَ من جديدْ
مخرج آمِن
أكتفي بهذا القدر في إبداء طرح هذه الكلمة التي كان أساس مرجعيتها جلسة الإستماع والمؤانسة وقصائده على صفحات الفيسبوك والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.