الذين يقولون اليوم بأنه ينبغي “احترام التوجيهات الملكية” في مراجعة مدونة الأسرة، وهم يعتقدون بأنهم بذلك سيمنعون من إجراء التعديلات الضرورية على نص متجاوز دستوريا وواقعيا، إنما يقومون بعملية انتقاء في تلك التوجيهات، إذ يركزون على جملة تقع عندهم موقع الاستحسان، مع بترها من سياقها العام، بينما يغضّون الطرف عن التوجيهات الأكثر أهمية في مراجعة النص وإصلاحه.
وبهذا الصدد نذكرهم بأن التوجيهات الملكية في مجملها لم تُحترم سنة 2004 في المدونة الحالية التي تخضع للتعديل، وإليكم التوجيهات التي جاءت في الرسالة الملكية آنذاك والتي تم تضمينها في ديباجة مدونة الأسرة من طرف اللجنة دون أن تتم مراعاتها في الصياغة النهائية لمواد المدونة:
ـ جاء في ديباجة المدونة أنّ “النهوض بحقوق الإنسان في صلب المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، الذي يقوده جلالته حفظه الله، ومن ذلك إنصاف المرأة وحماية حقوق الطفل، وصيانة كرامة الرجل، في تشبث بمقاصد الإسلام السمحة، في العدل والمساواة والتضامن، واجتهاد وانفتاح على روح العصر، ومتطلبات التطور والتقدم”.
حيث لم تتم مراعاة هذا التوجيه الهام في مراعاة الأوضاع الجديدة للمرأة المغربية وجهودها التي تبذلها في كل المجالات، كما لم تتم مراعاة مفهوم الطفولة الحديث حيث استمر تزويج طفلات لم يبلغن سنّ النضج النفسي والعقلي لتحمل أعباء الأسرة، ولم تتم مراعاة “مقاصد الإسلام السمحة” بقدر ما تم تكريس التشدد الفقهي للعصور الوسطى، إضافة إلى أن نظام العلاقات الأسرية الذي تم الإبقاء عليه في مواد المدونة يكرس الوصاية والقوامة وهيمنة الذكورة وهو ما يتعارض كليا مع عبارة المجتمع الحداثي الديمقراطي.
ـ كما جاء في الديباجة المذكورة أيضا أنّ “الأسرة المغربية القائمة على المسؤولية المشتركة، والمودة والمساواة والعدل، والمعاشرة بالمعروف، والتنشئة السلمية للأطفال، لبنة جوهرية في دمقرطة المجتمع”.
وهو ما لم تستجب له موادّ المدونة آنذاك عندما أبقت على التدبير الأحادي الذكوري داخل الأسرة، ولم تقم بإقرار الولاية المشتركة على الأطفال وفقا لمبدأ “المسؤولية المشتركة”، حيث بقيت المرأة المغربية تناضل باستماتة من أجل أطفالها في غياب الرجل، دون أي اعتراف بوجودها بوصفها الأم المسؤولة عن أولائك الأطفال. ولهذا لم تتحقق “دمقرطة المجتمع” بل على العكس تم تكريس الظلم المضاعف ضد النساء والأطفال، فتضاعف العنف ضد المرأة كما تضاعف تزويج الطفلات.
ـ وجاء في المدونة “تكريس حقوق الإنسان والمواطنة للمغاربة نساء ورجالا على حد سواء”، بينما ظلت مواد المدونة بعيدة كل البعد عن مفهوم المواطنة وعن منظومة حقوق الإنسان كما تتبناها الدولة المغربية وتلتزم بها.
بل إن هناك توجيهات ملكية واضحة وصريحة لم تؤخذ بعين الاعتبار فظلت حبرا على ورق ومنها:
ـ “تبني صياغة حديثة بدل المفاهيم التي تمس بكرامة وإنسانية المرأة”، حيث أبقت اللجنة آنذاك على ترسانة لمفاهيم الفقهية المتخلفة التي تُهين المرأة وتعكس نظرة فقهاء العصور القديمة في زمن “الحريم”، وذلك مثل مفهوم “المتعة” و”الوطء” و”اللعان” و”القوامة” و”الهجر” و”الفراش” و”ابن الزنى”، واعتماد معجم قانوني حديث يُخرج نص المدونة من المنطق الذكوري القديم.
ـ “جعل مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين” وهو ما لا تسمح به مدونة 2004 التي ظلت دون هذا التوجيه، في انتظار ما ستسفر عنه المراجعة الحالية.
ـ “إيجاد قضاء أسري عادل وعصري وفعال”، وهو ما لم يتحقق أيضا حيث ما زال القضاء يظل القطاع الأكثر محافظة وممانعة ضد قيم العصر ومبادئ المساواة والعدل واحترام النساء والأطفال.
ـ “الاجتهاد المستنير المنفتح على روح العصر، ومتطلبات التطور والتقدم”.
بينما أعطاب مدونة 2004 تعكس ما يخالف هذا الاجتهاد المستنير، مما تسبب في استمرار الظلم الذي يطال النساء والفتيات سواء في الزواج المبكر أو في احتكار الولاية من طرف الرجال، أو حرمان المرأة من الحضانة عند زواجها، أو تعدد الزوجات، أو حظر زواج المسلمة من غير المسلم، أو إثبات النسب بالوسائل العلمية المختبرية، أو عدم اقتسام الأموال المكتسبة، أو هضم حقوق الفتيات في التعصيب ونظام الإرث.
لقد تكررت نفس التوجيهات الملكية خلال خطاب العرش لسنة 2022، كما تكررت في الرسالة التي وجهها الملك لرئيس الحكومة الحالي، فهل ستقوم المؤسسات الوصية على عملية المراجعة باحترام هذه التوجيهات الهامة، أم أنها ستقف عند “ويلٌ للمصلين”؟.