آراء

إنقلاب محاور الأرض.. والتاريخ ومصائر الأمم

إن الشمال تحرك إلى الجنوب وتزحزح الجنوب فاستقر في الشمال في معادلة معكوسة جداً محور طنجة ـ جاكرتا يزدحم بشعوب فقيرة هزيلة عاجزة عن حل مشاكلها يشكل العالم الإسلامي فيها وزناً كبيراً قد خسرت الرهان العالمي وطُوِّقت بحضارة رأسمالية غربية ذات إدارة موحدة

لو أتيح لزائر سماوي أن يمر على الأرض قبل ألف سنة من غير أن يعرف أي لغة أو ثقافة أو دين، وتفقد الأرض والناس والوقت والعمل، فسوف يتشكل في ذهنه انطباع واضح من جراء تكرار المناظر، أن هذا العالم ليس عالماً واحدا بل عالمين، وأن هناك خطان واضحان يفصلان الناس في الكرة الأرضية، تماماً مثل خطوط الطول والعرض، ولكنهما ليس خطان جغرافيان بل خطان حضاريان متميزان، أو لنقل محوران للشمال والجنوب: يمتد الخط أو المحور الأول على طول طنجة ـ جاكرتا ، ويربط الثاني بين موسكو ولندن.

المحور الأول يملك الثروة والعلم والقوة العسكرية، تمر عبر أراضيه خطوط التجارة الدولية، وتزدحم أسواقه بالبضائع والناس والمال معاً، في أعظم دينامية اقتصادية عرفتها أسواق المال، وتزدان بيوته بكتب العلم والثقافة العالمية والترجمات المنوعة، ومجالسه بالبحث العلمي والمناظرات على الطريقة التي سجلها لنا مثقف ذلك العصر أبو حيان التوحيدي في كتابه (الإمتاع والموآنسة) ومدارسه التي تقيس محيط الكرة الأرضية، وتخطط لانتقاء أفضل مكان لبناء بيمارستان بتجربة صمود اللحم للفساد وتمتلك دوله الجيوش النظامية المتطورة، ويتحرك في مدنه بشر فعَّالون بوجوه تفيض بالجمال والحيوية، يرتدون الملابس النظيفة الجميلة.

وفي مدينة مثل بغداد يعالج فيها أكثر من 800 طبيب في عشرات البيمارستانات عشرات الآلاف من الناس، الذين ينعمون بالرفاهية ويرتادون الحمامات العامة بشكل دوري، وتشع منهم الزينة ويتبارون في التأنق في المأكل والملبس، ويقضون الكثير من الوقت في مجالس العلم والرحلات، كما خلدها الأدب العربي في قصص السندباد البحري، ومجالس الظرف والفكاهة وعجائب الأسفار في قصص ألف ليلة وليلة وكتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني.

كتاب الثقافة العالمية وسطور الحضارة كانت تكتب في ذلك الوقت بخط ولغة من اليمين إلى الشمال.

وفي المحور الثاني على خط لندن ـ موسكو يعيش أكثر شعوب العالم فقراً وتخلفاً، ينتشر فيهم الطاعون فيحصد ثلث السكان على الأقل، في المدن القذرة التي لا تعرف نظام التصريف الصحي والحمامات بعد، يطاردون الساحرات والقطط، ويعالجون السعال الديكي بلبن الحمير، ويشترون تذاكر لدخول الجنة، ويحرقون العلماء والكتب معاً في الساحات العامة بتهمة الهرطقة والزندقة، وتزدحم مدنهم بالشحاذين على الطريقة التي وصفها الروائي الفرنسي (فيكتور هوجو) في قصته العالمية المشهورة (أحدب نوتردام) ويُعالج المريض النفسي بالسلاسل والضرب بالكرباج لاستخراج الأرواح الشريرة من جمجمته، وينسب انتشار الأمراض إلى البروج والكواكب أو اليهود!.

فتخرج الناس على شكل طوابير تطوف البر تضرب نفسها بالسوط لدفع المرض، أو تحرق اليهود والساحرات والقطط معاً في الساحات العامة، وتتحرك من وسطه أفواج من الحجاج الفقراء لزيارة القدس، أو عصابات صليبية مفلسة يقودها رجال أمُّيون من طراز ريتشارد قلب الأسد، ويضحك البابا لاكتانتيوس أشد الضحك على الذين يزعمون أن الأرض كروية فيقول: هل جُنَّ الناس إلى هذا الحد فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار والناس تتدلى من الطرف الآخر.

وبعد ألف سنة بالضبط يصاب الزائر السماوي بالدوار وجحوظ العينين، ويبدأ ليمشي على رأسه حتى يفهم قراءة الخطوط من جديد؟!…

إن الشمال تحرك إلى الجنوب، وتزحزح الجنوب فاستقر في الشمال في معادلة معكوسة جداً. محور طنجة ـ جاكرتا يزدحم بشعوب فقيرة هزيلة عاجزة عن حل مشاكلها، يشكل العالم الإسلامي فيها وزناً كبيراً، قد خسرت الرهان العالمي، وطُوِّقت بحضارة رأسمالية غربية، ذات إدارة موحدة، تُحْكِم قبضتها على الكرة الأرضية كلها، للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري، مسلحة بالصواريخ النووية ومصارف المال ومراكز البحث العلمي.

وانقلب خط الشمال ليمتد هذه المرة فيملك أربع قارات جديدة، ويضع يده على ممرات الملاحة البحرية ومعها الثروة العالمية ويمتلك الجيوش النظامية المتطورة التي فاجأت فرسان المماليك عند سفح الأهرام مع نهاية القرن الثامن عشر ومعها الأسلحة المتطورة من البنادق والمدفعية، بالإضافة إلى التقنية الحربية الرفيعة.

الغرب اليوم يملك ثلاث أخماس الكرة الأرضية وأربعة أنهار من كل خمسة أنهار هامة في الجغرافيا، وخمسة فدادين من كل سبعة فدادين صالحة للزراعة، ويملك ثمانية قروش من كل تسعة قروش ونصف في العالم وتنام في مانهاتن في نيويورك أعظم خزينة ذهب في تاريخ الجنس البشري لم يحلم بها الفرعون خوفو، ولم يملكها قارون بذاته.

وانتشرت لغة ريتشارد قلب الأسد لتصبح اللغة العالمية، وبُني لأحفاده بيت على ظهر القمر. ويرسل الباثفايندر لترسو على سطح المريخ.

كتبت الحضارة هذه المرة من الشمال إلى اليمين…
مجلة الشبيجل الألمانية تمثل لهذا الانقلاب العالمي بعنوان (عالم منكوس) وتمثل لهذا بكمية الاستهلاك العالمية للطاقة، حيث تحتل أمريكا الشمالية رأس القمة فتستهلك ثلث ما يستهلكه جميع البشر على وجه الكرة الأرضية، وتأتي أوربا في المقام الثاني إلى وتأتي دول أوربا الشرقية في المقام الثالث.

وتنكمش قارة أفريقيا كلها في هذه الخريطة إلى ما يعادل استهلاك إسبانيا، وعندما نَفَخت الصورةُ أمريكا أو بالعكس انكمشت حجم الدول إلى مقدار استهلاك الطاقة فإن صورة العالم تحولت إلى كائنات عملاقة يسكنها الرجل الأبيض، وتحولنا نحن إلى كائنات ضامرة وذيول لكائنات خرافية تتمدد على خط الشمال.

والسؤال كيف حدث هذا الانقلاب الصاعق ومتى ؟

إن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يسجل كارثتين غير معقولتين للعالم الإسلامي ودفعة واحدة وبفاصل عشر سنوات، ففي عام 1248 م يسقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي (إشبيلية) وفي عام 1258م يسقط الجناح الشرقي، بسقوط لؤلؤة الشرق بغداد بيد الحصادة المغولية القادمة من الشرق. ويخرج خليفة أعزل سمين حاسر الرأس لمقابلة جزَّار دموي من طراز (هولاكو) يناشده الحفاظ على 700 من الجواري اللواتي لا يعرفن ضوء الشمس.

والذي حدث بعد ذلك كان أدهى وأمر فقد استطاعت الثقافة الجرمانية وخاصة الإنجليز من تطوير نظامها الإداري، وقفزت إلى سطح العالم كقوة عالمية مسيطرة تهيمن على هندسة مصير الجنس البشري. ومع نمو الطبقة الوسطى، وبداية انفجار الثورة الصناعية، أمكن في ظل البرلمان البريطاني، أن يتم وضع نموذج جديد للإدارة، حيث شكل التوازن الجديد بين طبقة أصحاب الثروة والقوة العمالية، نموذج الديموقراطية الرأسمالية الجديدة التي تملك مقادير الجنس البشري في الوقت الراهن، وعندما هرب فرسان المماليك أمام مدفعية نابوليون كانت الهزيمة في الواقع بين عالمين مختلفين.

فالعالم الإسلامي استيقظ على الصفعة الاستعمارية هذه المرة، وأحس بقشعريرة البرد؛ أن العالم الجديد قد تغير، وأن الزمان قد دارت دورته، وأن أساطير ألف ليلة وليلة قد انتهت، وأن شهريار قد أدركها الصباح.

نحن مازلنا نعاني من مشكلة فهم تعقيدات هذا العالم الجديد المسحور، ومعاناة ضريبة التكيف معه، لأنه عالم لم تصنعه يدانا، فنحن أمام سحر جديد لم نقدر على فك طلسمه بعد والتعامل مع ملك الجان.

https://anbaaexpress.ma/dqeik

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى