زار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان دمشق يوم الإثنين الماضي. أطلق من هناك مجموعة من المواقف المتوعّدة بالردّ على الغارة التي استهدفت قنصلية بلاده في العاصمة السورية في الأول من نيسان الجاري.
أجرى محادثات مع نظيره السوري، فيصل المقداد والتقى الرئيس السوري بشار الأسد وافتتح المبنى القنصلي الجديد للسفارة الإيرانية في دمشق. ورغم مشاهد الودّ بين الوزيرين، فإن مياهاً كثيرة تجري تحت قوس العلاقات بين دمشق وطهران.
لم تُخفِ منابر إيرانية خلال الأشهر الأخيرة اتهامها لأجهزة أمنية سورية في التورط بتوفير المعلومات التي قادت إلى نجاح إسرائيل باغتيال كبار الضباط والمستشارين الإيرانيين في سوريا.
لم يرقَ الاتهام إلى المستوى الرسمي، لكن ضجيج منابر طهران يعبّر عن تبرّم يكاد يكون علنياً من تحوّل سوريا، حتى داخل المربعات الأمنية، إلى منطقة غير آمنة وغير حاضنة للوجود الإيراني فوق الأراضي السورية.
وإذا ما سبق أن اشتبهت بعض منابر إيران من سكون روسي على حملة الغارات الإسرائيلية التي طالت أهدافا إيرانية في سوريا، خصوصا منذ عام 2011، فإن الهمهمات في طهران بدأت تشتبه بتواطؤ موسكو ودمشق ضد النفوذ الإيراني في سوريا.
بدا في مراسم استقبال الوزير الإيراني إفراط في الطقوس الرسمية التي تكشف عن ميل في دمشق لتعامل بروتوكولي مع الحليف الإيراني، في الشكل على الأقل.
صحيح أن الوزيرين اتفقا، منطقيا، على إدانة استهداف مبنى “إيراني” فوق أراض “سورية” واعدين بردّ حتمي، غير أنه في ما عدا هذا الحدث، فإن خطاب النظام السوري ابتعد بشكل واضح عن خطاب الجمهورية الإسلامية منذ اندلاع الحرب في غزّة.
لم تعبّر دمشق منذ عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي عن أي موقف يشبه ذلك الذي أطلقه “محور المقاومة” بقيادة إيران. ولا يقتصر موقف دمشق على غياب أي أنشطة عسكرية من الأراضي السورية على غرار حراك الفصائل الموالية لطهران في العراق ولبنان واليمن، بل على اختفاء أي خطاب تحريضي على الرغم من ضراوة الحرب وتسببها في كارثة إنسانية اهتزت لها عواصم الدنيا.
قد لا يعبّر السلوك السوري عن خلاف مع إيران أو انشقاق عن “محورها”. غير أن ما صدر من إيران من شكوك بشأن سقوط الضباط الإيرانيين واستهداف مواقع ومخازن أسلحة تابعة للحرس الثوري فوق الأراضي السورية، كشف تنامي ظواهر عدم الثقة إلى درجة نقل وسائل الإعلام عن مصادر إيرانية اتهام دمشق بـ “الخيانة” إثر قصف القنصلية الإيرانية، ورواج روايات بشأن مغادرة مسؤولين سوريين مبنى القنصلية قبل تدميرها.
ولطالما خرج المتحدثون السوريون غير الرسميين، والذين يظهرون بصفتهم ضيوفاً على الفضائيات العربية، بتعليقات وتحليلات في كل مرة تضرب إسرائيل أهدافاً إيرانية في سوريا تنمّ عن عدم اهتمام أو انخراط بالحدث بصفته سورياً بل بكونه حدثاً يتعلّق بقوة أجنبية في بلادهم.
ولطالما كرر هؤلاء التأكيد، في معرض تبرئة أجهزة الأمن السورية من أي تورط، أن للوجود العسكري الإيراني في سوريا منظومته الأمنية الخاصة، وأن الأجهزة السورية لا تتدخل في عملها ولا تملك معلومات عنها.
وإذا ما ظهر توتر في علاقة رجال الحرس الثوري مع سلطات دمشق بدأ يتسرّب إلى هياكل السلطة في إيران وواجهاتها الإعلامية، فإن زيارة عبد اللهيان سعت إلى تدوير الزوايا وإظهار متانة العلاقة بين البلدين ونفي وجود برودة أو توجّس في علاقة دمشق وطهران.
ولئن تحرص إيران على تظهير وجودها في سوريا بصفته شرعياً جاء استجابة لدعوة رسمية من نظام دمشق وتحرص على تأكيد سيطرتها على إحدى “العواصم العربية الأربع” التي سبق التفاخر بالهيمنة على قراراها، فإن دمشق تعيد التموضع وفق حسابات حساسة تسعى إلى استكشاف نقطة توازن بين خيار المحافظة على علاقات متميّزة مع طهران من جهة والإذعان إلى ضغوط تطالبها بأخذ مسافة من نظام الولي الفقيه من جهة أخرى.
وكان لافتا غياب دمشق عن المشاركة في فعالية “منبر القدس” التي نظمت في 3 نيسان (أبريل) الجاري في “ذكرى يوم القدس العالمي” في وقت واحد في 4 عواصم هي بيروت وبغداد وصنعاء وطهران.
شارك في الفعالية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وأمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنيّة والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة والأمين العام لحركة “النجباء” أكرم الكعبي والأمين العام لمنظمة “بدر” العراقية هادي العامري وزعيم “جماعة الحوثي” عبد الملك الحوثي.
حضرت العواصم وغابت دمشق وغاب أي صوت عنها حتى بتمثيل متدني عن الحضور في حدث يفترض أنه علامة على وحدة “المحور” ووحدة “الساحات”. تروّج أوساط “المحور” أنها تتفهم “الظروف الخاصة” لـ “الأشقاء” في سوريا من دون أي توضيح لماهية هذه الظروف التي “تعلّق” انتماء سوريا إلى نادي الممانعين.
كان حزب الله قد تقصّد، من خلال المنافذ الإعلامية القريبة، منه تسليط الضوء على دور الوساطة الذي قيل إن الرئيس بشار الأسد قد قام به تحضيرا للزيارة التي قام بها مسؤول الارتباط والتنسيق في الحزب، وفيق صفا، إلى الإمارات في شهر آذار (مارس) الماضي. غير أنه لم يصدر عن دمشق أي تعليق وإن كان في “وساطة” الأسد المفترضة تظهير لحسن علاقاته مع الإمارات وإقرار بما تسعى إليه دمشق من توسيع هامش المناورة في الساحتين، العربية والدولية.
تبدو طهران مضطرة إلى التعايش مع “الظروف الخاصة” لدمشق وربما تحمّل ما تقتضيه هذه الظروف من “ارتخاء” أمني بدأ يقلق الحرس الثوري. يسعى الأسد لتنشيط همّة التطبيع مع العالم العربي التي فترت وأصابها تردد وارتباك بسبب صلات دمشق وطهران.
بالمقابل، فإن دمشق تسعى لتقديم وجه آخر يكون مقبولاً لدى المجتمع الغربي، من خلال النأي الكامل بنفسها عن عملية “طوفان الأقصى” وإبراز خلافها القديم مع حركة “حماس” منذ خروج قياداتها من دمشق عام 2012.
تستند دمشق على دعم روسي يشجع النظام السوري على الذهاب باتجاه تموضع أكثر استقلالاً خصوصا في ظل تراجع أخطار وجودية كانت تتهدد النظام. وتتحدث بعض المعطيات في هذا الصدد أن موسكو ضغطت بدورها على طهران لاستثناء دمشق من التزامات تفرضها طهران على صنعاء وبيروت.