آراءعاجلمجتمع

رسالة من غزة..

إسرائيل تسوق للعالم رواية أنها تحارب حركة حماس وأنها لن توقف الحرب إلا بالقضاء عليها لكن مطالعة سريعة لاحصاءات أي مؤسسة حقوقية موثوقة تفضح كذب الدعاية الإسرائيلية..

صديقي (أبو رتيمة) أعرفه منذ عشرات السنوات ونشترك في مفهوم (العلم والسلم) والمقاومة السلمية، والرجل يسكن في غزة وعنده عقل نقدي نتراسل من حين لآخر؛ ولأن بنو صهيون يستهدفون العقل الفلسطيني  وماهم بقادرين  فقد تضخم العقل الفلسطيني إلى عقل جمعي عالمي في الانتباه إلى الخطر الصهيوني على العالم؛ بل على اليهود أنفسهم، ولذا قام الكثير من اليهود يناهضون لعنة الصهيونية بل ويقارنوها بعجل السامري في مظاهرات نظموها في أكثر من مكان، كما فعلت اليهودية (نعوم كلاين) في مظاهرة في أمريكا شاهدا على ما جاء ذكره في القرآن عنهم (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) أو الآية التي تقول (أولم يكن شاهدا لهم أن يعمله علماء بني إسرائيل) .

الرجل أبو رتيمة كاتب المقالة التي ننشرها استُهدف بصاروخ لكنه نجا من الموت وقتل ابنه الحبيب وقسما من عائلته والرجل نجا بفضل من الله أن مازال في الحياة له حظ يعيشه.

العجيب في بنو صهيون أن الأوربيين آذوهم وشردوهم وطردوهم واحتواهم العالم الإسلامي ومازلت أذكر حي اليهود في مدينتي القامشلي حيث ولدت في قدر سوريا التي لعنت أيضا، حيث استفحل فيها القتل والتهجير على يد قسم من طائفة العلويين (ولينتبه المغاربة من كلمة العلويين فهم في سوريا طائفة شذت من الشيعة ونحا بعضهم إلى تاليه علي رضي الله عنه). وأضع بين يديكم نصل الرسالة التي وصلتني من صديقي الغزاوي أبو رتيمة.

رسالة أبو رتيمة من غزة مع نهاية أبريل 2024

يتداول بعض الناس في قطاع غزة هذه الأيام نكتة ساخرة وهي أن الإسرائيلي الأكثر إنسانية هو ذلك الوزير الذي دعا في بداية الحرب إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة.

هذه النكتة – إن صح اعتبارها نكتة تجاوزا – لم تأت من فراغ فحجم الدمار المرعب الذي ألحقته إسرائيل وفق خطة ممنهجة في قطاع غزة منذ بداية هذه الحرب الإبادية وتدمير كل مقومات الحياة من مبان وإزالة أحياء كاملة وتغيير ملامح المدينة جذرياً يعادل عدة قنابل نووية، وتبقى ميزة واحدة لتصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو في بداية نوفمبر الماضي وهو أن القنبلة النووية تقتل ضحاياها مرة واحدة بينما الحرب الإبادية الإسرائيلية لا تزال مستمرة للشهر السابع على التوالي متسببة في خسائر بشرية ومادية ونفسية لا تقل عن أثر السلاح النووي…

قبل أيام قليلة زرت مدينة خانيونس للمرة الأولى منذ اجتياحها البري الذي استمر قرابة أربعة شهور!

كان المشهد صادما ومرعبا، مشيت كيلومترات طويلة في الشوارع المجرفة دون أن أجد وسيلة نقل إذ لم تعد الشوارع صالحة لسير المركبات، كانت المدينة مهجورة تماما إذ اضطر معظم سكانها إلى النزوح منها إلى مدينة رفح في الجنوب تحت ضغط المجازر الإسرائيلية..

كان ركام المنازل المدمرة في كل جانب يبدو بلا نهاية، ومن بين عشرات آلاف المنازل المدمرة تدميرا كليا كانت تظهر بعض المنازل أحيانا قد سلمت منها بعض الغرف أو الأعمدة القائمة، في هذا الواقع المرعب وجدت نفسي أغبط أصحاب هذه المنازل، كنت أقول في نفسي: هؤلاء محظوظون حين تنتهي الحرب سيكون بإمكانهم العيش في غرفة أو غرفتين من بيوتهم المهدمة..

وأنا أواصل رحلتي بين الأطلال كنت ألاحظ أحيانا كتابات باللغة العبرية خطها الجنود الإسرائيليون على ركام المنازل، لا أفهم العبرية، لكني وجدت بينها كتابة باللغة العربية يبدو أنها كتبت من جندي اسرائيلي يعرف اللغة العربية وتحتوي على شتيمة نابية، توقعت أن بقية الكتابات المكتوبة بالعبرية تتضمن شتائم نابية على نفس المنوال! كيف يتصرف جيش نظامي بهذه الروح الثأرية وهو مدفوع بأقصى مشاعر الكراهية والحقد.

بعد مشي متعب طويل وصلت إلى أحد الشوارع الرئيسة الذي كنت أحفظ معالمه جيدا وهو شارع السطر الغربي..

للحظة ظننت أني أضعت المكان، لم أعرف المكان فقد تغيرت ملامحه جذريا، الشارع مجرف بالكامل وكل المباني والمحلات عن اليمين والشمال مدمرة..

سألت رجلاً كان يقف في المكان: هل هذا هو السطر الغربي! قال لي: نعم، قلت: غريب، لم أعرفه..

رد علي: أنا لم أعرفه أيضاً رغم أني من سكان المنطقة..
دعوت انا وإياه معا: ربنا ينتقم من الظالمين..

انطلقت إلى الزاوية الشمالية الغربية من مدينة خانيونس حيث تقع شقتي التي كنت أسكن فيها، هذه الشقة هي حلم العمر، اشتريتها بالتقسيط المريح قبل سبع سنوات بعد أن قضيت تسع سنين متنقلا في شقق بالإيجار أحببتها جدا لأنها تقع في مكان هادئ ومحاطة بالمنتزهات من كل مكان، هذا البيت شهد نشأة أطفالي ومنهم طفلي الأكبر عبد الله الذي قتلته إسرائيل في هذه الحرب، حين زرتها في المرة السابقة جمعت كل مقتنيات عبد الله وملابسه في حجرة خاصة به وقلت حين تنتهي الحرب ستظل هذه الزاوية ذكرى لعبد الله.

توغلت جيش اسرائيل في مدينة حمد ودمر عشرات الأبراج السكنية من بينها البرج الذي تقع فيه شقتي، منذ بداية مارس سمعت بالخبر ولكني لم ازرها، كنت أحاول الهروب من مواجهة الصدمة القاسية حين أرى حلم عمري وموضع ذكريات طفلي قد تحول إلى ركام.

اليوم بعد شهر كامل تجرأت وذهبت الى المكان ، تحولت العمارة التي تضم اثنين وعشرين شقة سكنية إلى كومة من الأحجار، اثنان وعشرون حلما أجهضتها إسرائيل ومثلها مئات آلاف الأحلام لأهالي غزة التي اجهضتها إسرائيل، حاولت النفاذ ببصري تحت الركام فلم أر شيئا من مقتنيات المنزل باستثناء دراجة عبد الله التي كانت محطمة تحجبها عني طبقات الركام.

هذه الشقة كانت تمثل الأمل الأخير لعائلتي الكبيرة المكونة من والدي واخواني الأربعة وعائلاتهم ، في 24 أكتوبر 2023  قصفت طائرات إسرائيل الحربية المصنعة في الولايات المتحدة بيت عائلتي في رفح، قتل في القصف ستة من أفراد عائلتي بينهم ابني عبد الله وأصيب الآخرون بينهم أنا وبقية أطفالي، كان بيت والدي يضم أربعة شقق فوجد والدي واخواني أنفسهم فجأة بلا مأوى.

قلت لوالدي: حين تنتهي الحرب سأسافر، وبإمكانكم الاستفادة من شقتي والسكن فيها حتى يعاد إعمار غزة..

هذا الأمل أمدنا بشيء من الحياة، لكن في اليوم الأول من رمضان حين جاءنا خبر تدمير الشقة انتهى كل شيء، لم أجد كلمات يمكن أن أعلق بها فالتزمت السكوت وسكت والدي وسكت الجميع..

إسرائيل تسوق للعالم رواية أنها تحارب حركة حماس وأنها لن توقف الحرب إلا بالقضاء عليها، لكن مطالعة سريعة لاحصاءات أي مؤسسة حقوقية موثوقة تفضح كذب الدعاية الإسرائيلية ما تفعله إسرائيل منذ بداية هذه الحرب الإبادية هو تدمير ممنهج ومقصود لقطاع غزة وتحويله إلى مكان غير صالح للحياة ودفع سكانه إلى مغادرته، معظم ضحايا هذه الحرب من الأطفال والنساء وليس من المقاتلين، لقد دمرت إسرائيل كل الجامعات ومعظم المستشفيات والأراضي الزراعية التي كانت سلة غذائية للسكان، ودمرت معظم المساجد وازالت أحياء كاملة من الوجود وغيرت ملامح المدن وجرفت الطرق ومنعت إعادة وصل الكهرباء، ودمرت مئات المواقع الأثرية بعضها يمتد لآلاف السنين وأجبرت أكثر من مليون ونصف مليون إنسان على مغادرة بيوتهم وهي لا تزال ترفض عودتهم إلى ركام منازلهم! ماذا يفهم من كل هذا سوى أن الهدف الإسرائيلي من هذه الحرب الإبادية هي إنهاء الوجود الفلسطيني في قطاع غزة..

بعد أن رأيت أنقاض المدينة وأنقاض بيتي رجعت مرة أخرى إلى رفح، رفح تختلف عن خانيونس:

خانيونس هادئة مثل المقابر لأنها فرغت من الناس أما رفح فهي مزدحمة بالضجيج، لكن الصورتين تعكسان حقيقة واحدة ؛ هذا الازدحام في رفح المدينة الصغيرة التي تضاعف سكانها خمسة أضعاف في شهور الحرب هو بسبب إجبار إسرائيل أهالي الشمال إلى النزوح إليها، لكن رفح في الأصل هي مدينة فقيرة لا تتوفر فيها حتى الخدمات الضرورية لأهلها الذين لم يكن يزيد عددهم قبل الحرب عن ثلاثمائة ألف نسمة، فكيف حين تضاعف عدد السكان فيها خلال الحرب إلى أكثر من خمسة أضعاف !

لا يوجد في المدينة سوى أربعة مراكز طبية يسميها الناس مجازا مستشفيات، لا يوجد مساكن، لذلك ينام الناس في الشوارع وعلى الأرصفة وعلى شاطئ البحر..

يعاني الناس من نقص كل شيء، لا مأوى ولا طعام ولا مال ولا خدمات صحية، ثم يضاف إلى كل ذلك الموت والخوف، فالغارات الإسرائيلية المتواصلة لم تستثن مدينة رفح التي ادعت إسرائيل أنها مكان آمن، منذ بداية الحرب قتل الآلاف في مدينة رفح، لم تستثن الغارات أي مكان، لا البيوت السكنية ولا المساجد ولا حتى خيام النازحين ومراكز إيوائهم..

تحذر حكومات العالم إسرائيل من اجتياح رفح لكن إسرائيل تتعامل مع ورقة رفح كما لو أنها ألهية تشاغل العالم بها..

الكارثة لن تبدأ إلا إذا اجتاحت إسرائيل رفح، الكارثة قائمة بالفعل، ومنذ سبعة أشهر فإنه لا يمضي يوم واحد إلا وتفرض اسرائيل فيه وقائع جديدة في قطاع غزة تهدف إلى تحويله إلى مكان غير صالح للحياة، يمضي المخطط الإسرائيلي دون توقف بعيداً عن صخب قضية رفح ففي كل يوم تدمر إسرائيل المزيد من البيوت والبنى التحتية والأراضي الزراعية في كل أماكن القطاع وتلتهم أراضي القطاع لإنشاء مناطق عازلة في الشرق والشمال وكذلك في منتصف القطاع لإنهاء وحدته الجغرافية، وهو ما يعقد مهمة إعادة إعمار قطاع غزة لو انتهت الحرب..

من المؤكد أن اجتياح رفح سيضيف كارثة جديدة إلى سلسلة الكوارث التي اوقعتها إسرائيل بالفلسطينيين، لكننا نريد أيضاً أن يفهم العالم أن الوضع الراهن في غزة غير قابل بالمطلق للتأقلم معه، وان إسرائيل تقتلنا كل يوم بوسائل أقل ضجيجاً وأنه حتى لو اكتفت إسرائيل من قضية رفح بهدف دعائي لإشغال العالم عن هدفها بتثبيت وقائع جديدة تحول غزة إلى مكان طارد للسكان، فإن هذا لا يعني أن الأمور على ما يرام. هناك شعب كامل يجري اقتلاعه من أرضه وإبادته، وإن من المرعب أن هذه الجريمة يشاهدها العالم منذ سبعة شهور بالصوت والصورة..

https://anbaaexpress.ma/iuj11

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى