يقف حمار الشيخ في العقبة حين يعجز النّاظر في الظاهرات عن التمييز بين ما هو ممكن في التجريد العقلي وما هو غير ممكن في الواقع الخارجي.
هكذا ما قد ينفك في الوجود الذهني يتحد في الخارج، كاتحاد الكلّي الطبيعي مع أفراده خارجا. إنّ الغفلة عما به الفكاك ذهنيا وما به الاتحاد خارجا، قد يجعل العقل ينزاح عن استيعاب الواقع، متجاهلا تركيبه الخلاّق حدّ الاختزال والتجريد المُضرّ بالفهم المعيق للفاهمة.
ولا تعتقد أن القدامى لم يفطنوا لذلك وإن اختلف الاصطلاح، وحيثيات الإراءة للموضوع. فلقد رأينا كيف بحث المنطقي أنحاء المسائل وعلاقتها بالموضوع، كما أثخنوا في عُلقة موضوعات المسائل وصلتها بموضوع العلم، وكيف ميزوا بين ما كانت الواسطة فيه أخص أو أعمّ أو مساوية أو مباينة.
باختصار ما كان من العوارض الذاتية أو الغريبة بلحاظ أنحاء العُروض، أي ما كانت الواسطة فيه واسطة في الثبوت أو واسطة في الإثبات أو واسطة في العُروض.
فلقد حققوا في موضوعات العلم ومسائله لكي لا يتسرب ما ليس من العلم في العلم، وقد اقتضى ذلك إخراج مسائل شتّى من صميم العلم.
والمناسبة في القول، أنّ المحقق القديم أدرك صرامة التحديد والتعريف والتأثير، فقال بمؤثرية الموضوع من ناحية العوارض الذاتية بعد إعادة إنتاجها وفق أصالة الوجود، التي أقحمها الأصولي في الأصول وفي كل نوبات التفكير وليس في مبحث الوجود فحسب.
فلقد آثر الآخوند الخرساني مثلا، أن يقلب النظر في ترتيب المطالب كما فعل إزاء سياسة المفاهيم، ليمنح تلك الأصالة في الوجود ما به ينهض تأصيل الأصول نفسه. فأصالة الوجود لا تقف عند مسائل الحقيقة بل إن لها شأنا كبيرا في مجال الشريعة.
وعليه، أقول بأنّ البحث في فلسفة القوانين، إن هي تجاهلت أصالة الوجود، فستكون قد أضاعت فرصا كثيرة في مدارك المعرفة. ما هي موضوعات القانون، وما يعرض على الموضوعات المستوعبة لمسائله؟ هل أمكن فلسفة القانون الظفر بهذه النكتة، فإذن لتجاوزنا معضلة الاختصاص.
أعود إلى معضلة الفكر الإسلامي المعاصر، المُعاق حتى اليوم بمفاهيم تعزز جموده، ما لم نستوعب كل هذا الجهد الذي يتجاهله تاريخ هذا الفكر الذي قام على استبعاد فصول مهمة من تاريخ العقل. فلا حديث في العقل وعن العقل وبالعقل عمن تحرّق في طريق إقصائه في الفقه الأكبر والفقه الأصغر.
إنّ تجاهل المدرسة العدلية وقراءتها على عجل وعلى تسطيح وعلى أساس أحكام قيمة، في حوار طرشان بين مدارس العصور المُشرقة علما، المظلمة استبدادا، يجعلنا عاجزين عن امتلاك الشجاعة المعرفية الكافية لما استجدّ في تاريخ العلم والمعرفة، ولما فاض به الوجود الاجتماعي من نوازل تترى.
إنّ التعريف التقليدي للاجتهاد الذي يعني بذل الجهد، يطوي معنى وجبت إثارته، حيث القيد المقدّر هنا ، أنه جهد باراديغمي يقوم على الاستيعابية لا على الرّهق.
فالقواعد جاءت لتختصر الطريق على الجهد، والحدس ملكة ومعطى كما هو الواقع الخارجي معطى. فلا جهد دون استحضار الأسس والقواعد الذي يجري فيها الاجتهاد ومنح الحدس الجديد فرصة الانقلاب.
فإذا ما شاخت القواعد وفقدت رصيدها من الإنتاج، وظهرت مفاهيم جديدة، بل تغير النموذج العلمي ، بفعل تقدم العلوم وتشعب المنطق حدّ ميلاد منطقيات جديدة، كان الجهد بقيد الإطار المعرفي الجديد، الذي تحدده الثورات العلمية، بالإضافة إلى بروز مقاصد جديدة.
فيكون المنسحب من مسائل العلم يوازي المستدخل منها، في دينامية لا تتوقّف، حيث الجوهر العقلي والمادي لا يقفان في الواقع، فالجهل والجنوح إلى فصل الفكر عن الواقع، يمارسان مقاومة ضدّ الحركة الجوهرية في العقل والواقع معا.
وعليه، فإنّ من لم يقف عند هذه النكتة من الحركة الجوهرية، وظنّ ظنّا ساذجا أنّ ابتغاء الحركة في لا جوهرانية العقل، فهو على متن حمار الشيخ المتوقف في العقبة، لأنّ الجوهر تحرّك في مسارات الحكمة المتعالية، فلم يعد هناك بُدٌّ في تجاهل هذه النكتة والبحث في ما لا طائل وراءه، كنفي الجوهرانية عن العقل تعريفا وتوصيفا، فرقا من لعنة باراديغم جامد وكاطيغورياس مُفلس، ركلته الحكمة المتعالية ردحا من الزمن. تغاضي عن تلك الحقيقة لشدّة تشبّث القائل بالإطار القديم، وهو ما يضعنا أمام العقبة الجوهرانية بتعبير غاستون باشلار، الفكرة التي تستحق بحثا لم يقم به فلاسفة العلم بعد، فها قد نبهناكم فلم تنتبهوا.
وأشرنا إليكم فلم تهتدوا، فالعقبة الجوهرانية التفاتة خلاّقة من باشلار، لكنها تحتاج إلى تأمّلا يُعيد إنتاجها في عصر تكالبت فيه الماهيات القاتلة ضدّ الجواهر المتحركة لا الثابتة.
فلقد تبين أنّ الحركة لا تُطلب في العوارض بل في الجواهر، وهي هناك من باب عروضها على الأعراض بواسطة هي الجوهر، حيث الحركة في العرض دليل ثبوتها في الجوهر.
ولقد رأينا من طلب الحراك في غير الجوهر، وضحّى بجوهرانيته لجهله بالحركة في الجوهر، فتاه في تلفيق لا قيام بعده حتى لو لاذ بالتسييس في إسناد قوله الفلسفي، واعتماد الطّغام والسائبة في إقامة هيكله المنفوش.
إنّ تجاهل هذه الحقيقة سيبقى لعنة في تاريخ الهمروجات الفلسفية المنحدرة من ميراث الكُفر بالعقل والنقض على المنطق، وهي في حالة استغفال العالم، هل رأيتم فلسفة تستند إلى سُلطة العوام ومن نقضوا نقضا على المنطق على طريق الحرّاني نقضا كُبّارا؟