آراءسياسة

الأنظمة الشمولية

وهناك من البلدان العربية ما يعيش على معادلة دقيقة كي لا يحصل نزوح جماعي. فلو خرج الناس من دين الحكم أفواجا كما فعل الألمان الشرقيون فهاجر الحرفيون والعلماء والمثقفون والشباب الطموح، لقاد البلد إلى الإفلاس في زمن يزيد وينقص

الأنظمة الشمولية تمتاز بأنها (شمولية) بمعنى أنها (كلٌ) متماسك إذا دخل الفساد عليها من ثقب كانت مثل الغرفة التي يدخل عليها ريح القطب الجنوبي فيموت أهلها بردا..

وعندما يثقب البالون في أي مكان يتسرب كل الهواء الداخلي بدون إبطاء. وهو في علم السياسة يعرف بقانون الديمنو أي مجموعة المكعبات التي تتماسك باستنادها إلى بعضها البعض فإذا أزيل مكعب واحد انهار كل البناء. هكذا انتهى نرويجا وشاوشسكو وشاه إيران وصدام.

وهذا يفسر لماذا كافح نظام ألمانيا الشرقية إلى ما قبل انهيار سور برلين بأيام. لأن أي ثقب فيه مثل النقب في سد هائل فينهار دكاء وكان وعد ربي حقا. وعندما يموت الإنسان فهي مسألة لحظة. وعليه فإن النظام الشمولي يكافح لآخر نفس للمحافظة على البقاء. ولا يسمح لأي ثقب في سده مهما بلغ صغره ولو كان من حجم النانو.

فهذه مسألة استراتيجية وهذا سر رفض النظام الشمولي أي محاولة إصلاح لأنها ليست إصلاحا ولا في صالحه بل إعلان موته في أسرع بريد. ومتى فتح الباب عصفت به الريح فانتهى. وهذا له علاقة بقانون التغيير الجيولوجي السياسي. فكما تعيش الذبابة أياماً كذلك الحال في عمر الأنظمة الشمولية فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

ولا يصدق الناس اليوم أن صدام غير موجود. والعديد من حكومات المنطقة تشعر بالبرد في مفاصلها فقد جاء أجلها. ونعي صدام هو بطاقة نعوة للحكومات المشابهة في المنطقة. وهو يذكر بما حصل مع موت ستالين في أبريل عام 1953.

أفلا يتدبرون التاريخ أم على قلوب أقفالها؟

فعندما نفق الجبار استيقظت الجماهير في برلين فتدافعت تنادي بالديموقراطية في بلد اسمه جمهورية ألمانيا الديموقراطية (DDR). لتتحول إلى انتفاضة شعبية عارمة يومي 16 و17 يونيو من عام 1953 تم سحقها بدون رحمة بالجيش الأحمر وميليشات الحزب القائد.

وبعد مرور نصف قرن على تلك الأحداث احتفل الألمان في يونيو من عام 2003 بالانتفاضة، فوضع كل من شرودر المستشار الألماني وتيرزيه رئيس البرلمان الاتحادي ورئيس الجمهورية فون فايتسكر أكاليل الزهور على قبور أكثر من مائة ضحية.

وتعود بي الذاكرة إلى يوم من عام 1975 وأنا مع زميل ألماني متوجهين إلى مدينة فورتسبورج في الجنوب، فسألته: هل تظن أن الشعب الألماني الموزع بين دولتين يمكن أن يتحد من جديد؟ هز رأسه نفياً. قلت له لماذا؟ قال: السبب يعود إلى تربية النشء الجديد، فهذا الجيل من الشباب لم يعد ألمانياً، لقد أعيدت برمجة عقله على الشيوعية؟ قلت له: أما أنا فأقول لك ان الشعب الألماني سيتحد مهما طالت الفترة؟. فوجئ بإجابتي ولم يعقب ولم يبد على وجهه الاقتناع.

والواقع إن جوابي كان نابعاً من القناعة بقوة الشعب الألماني وهزال النظام الاشتراكي المبني على (الإكراه) والمخابرات (الاستازي). وآية الفشل على أي نظام أنه يقوم على حراسة الإرهاب. وقوة الحياة تبقى أقوى من الموت.

وأكدت لي نظرتي هذه حادثة مثيرة وقعت معي حينما أخطأت الطريق في الذهاب إلى برلين، فبدلاً من الذهاب إلى الغربية ذهبت إلى الشرقية فوقعت في المصيدة. ولكن الخطأ كان كمن يريد الذهاب إلى الجنة فنزل إلى سقر وما أدراك ما سقر؟

وكما يقول الفيسلوف ابكتيتوس أنه ليس من شر في العالم فقد رأيت الجنة الاشتراكية على حقيقتها. فالشوارع ضيقة والسيارات باهتة اللون صغيرة الحجم والبنايات شعبية وسخة والناس بملابس رثة متواضعة، وأكثر ما لفت نظري كثرة الجيش والملابس العسكرية وكنت أشم رائحة رجال الأمن حيثما توجهت.

وتذكرت من هذه المناظر الأنظمة الاشتراكية في العالم العربي. وإذا عانيت أنا يوما في برلين فإن الألمان الشرقيين عانوا أربعين سنة يتيهون في صحراء الاشتراكية بين عامي 1949 و1989.

وكادت عاصمة (البروسيين) الجميلة أن تقع في قبضة ستالين عام 1950 حينما أعلن حصارها. تلك العاصمة الجميلة التي تحمل ذكريات الأميرة (صوفي شارلوتنبرغ) التي كانت تجري حواراتها مع الفيلسوف (لايبتنز) فتقول له: لم تفسر لي كل شيء وفي قناعتي أنه مع مواجهة الموت سوف تتوضح لي بقية الحقائق.

وبعد انتفاضة عام 1953 شعر الألمان أن طريق الخروج هو واحد من اثنين: فإما حررهم أحد من الخارج كما فعلت أمريكا مع العراقيين في ربيع 2003، أو بالنزوح الجماعي بكل سبيل ممكن حتى يسقط النظام الشمولي إفلاساً.

لقد ثبت أن من يعيش في ظل نظام شمولي تتشوه معالمه كإنسان ويقضى على الأبعاد الثلاثية عنده، فلا يبقى عنده طول وعرض وارتفاع، ويتحول إلى كم مهمل وظيفته، إن أراد البقاء، التصفيق في المظاهرات للانجازات. ومن عاش في كارثة كونية من هذا النوع عليه الهرب من البلد ومعه كلبه كما فعل أصحاب الكهف، فالديكتاتورية لا تصلح موطنا للكلاب؟

وهناك من البلدان العربية ما يعيش على معادلة دقيقة كي لا يحصل نزوح جماعي. فلو خرج الناس من دين الحكم أفواجا كما فعل الألمان الشرقيون، فهاجر الحرفيون والعلماء والمثقفون والشباب الطموح، لقاد البلد إلى الإفلاس في زمن يزيد وينقص.

ولكن ما يبقى على الحكم الشمولي على قيد الحياة هو الأمل الكاذب فلا يموت فيها الإنسان ولا يحيا. وبذلك تحول الملايين الذين هربوا من الحكم إلى ممولين له بالعملة الصعبة بنهر من ذهب من حيث أرادوا التخلص منه.

ولو نزح الناس من البلد وقطعوا الشرايين المغذية له لانهار النظام ميتا بفقر التروية. ولكن ملايين المهاجرين المغفلين يفعلون العكس، فيحافظون على ثبات عملة مفلسة بالتحويلات الثابتة بالملايين بنهر من ذهب فيبقون على جثة ميتة من حيث يريدون دفنها.

لقد كان نزوح الناس الجماعي ملحمة فيها أربعون ألف قصة وقصة، فمنهم من حفروا سراديب تحت الأرض بأشد من الأرانب، ومنهم من طار فوق السحاب ببالونات اخترعوها بنصب وعذاب. وسبح الشباب حتى الإنهاك إلى الشاطئ الآخر. وكانت الثواني تحكم على حياة وموت الناس.

ثم بدأ الناس يتجمعون حول مصادر القوة التقليدية الكنائس. وصبر الناس في برلين حتى يذوب الجليد. وفي عام 1985 مع مجيء غورباتشوف تجرأ الناس على المواجهة أكثر بعد أن أمر غورباتشوف بعدم تدخل الجيش الأحمر لمواجهة المتظاهرين الذين كانوا يهتفون: نحن الشعب.

ومن أعجب ما حدث ذلك المنظر الذي رأيته والجماهير العزلاء تقف في وجه الجيش وامرأة تجهش بالبكاء وهي تخاطب شرطيا انتصب أمامها متجمدا لا يجيبها ولا يبكي ولا يقاوم، وهي تهتف به بعبرات وعبارات ولكن لغة الوجه كانت معبرة اكثر من كل مقال؟

وفي النهاية مات النظام وتدفقت الجماهير فرفعت الحواجز وأخذت المعاول تنهال بها على الجدار اللعين، ومات النظام الكلي كلية بلحظة عين. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.

وحدث كل ذلك بثورة سلمية لم يمت فيها شخص واحد وإنما بالهتاف والدموع، والألمان يقبل بعضهم بعضا، وأنا مذهول من المنظر لا أصدق، فهذه الكائنات التي عشت بينها كنت أظنها روبوتات من الحديد ليس لها عواطف.

ولكنهم في ذلك اليوم بكوا وبفائض من الحنان تخزن عبر نصف قرن فتدفقت الدموع بأشد من مياه السيل بعد انهيار سد برلين؟

ولقد كان للألمان في انقسامهم وتوحدهم آية.

https://anbaaexpress.ma/07io9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى