
أرسل لي أخ فاضل عن إدعاء كشف خطير، يشكل إعجازا علميا جديدا للسنة، من حديث الحمير والديكة، كيف تقشع الحمير الشياطين، وكيف تبصر الديكة الملائكة؟
قال الرجل لقد كشف العلم الحديث أن عيون الحمير فيها من عصيات الشبكية بما ترى فيه الأشعة تحت الحمراء، وإذ كانت الشياطين المردة من مارج من نار، فإن قدرة الشبكية في عيون الحمير الظريفة تدرك فورا أن شيطانا مرّ لتوه بجنبها فتبدأ في النهيق فورا؟
أما الديكة الأظرف فنظرا لامتلاء شبكية العين عندهم بمزية إدراك الأشعة مافوق البنفجسية؛ فإن مرور الملائكة أمامهم يجعلهم يبدئون فورا بالصياح على الفلاح، ولم نعرف تماما عن مواعيد مرور الشياطين والملائكة، ذلك أن الديكة تبدأ في الإزعاج قبل الفجر ولها نشاطات غير محددة إلا طبعا بمرور الملائكة أمامها وتسكت معظم النهار لاختفاء الملائكة التي تداوم في الليل على مايبدو؟ أما الحمير فمزاجية، وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير!!.
الشاهد في كل هذه القصة هي موضة الإعجاز العلمي، وقد كان علماؤنا فيما سبق جدا حكماء، حين قسموا الحديث إلى نوعين من ناحية الصحة؛ فقالوا بمصطلح علم الحديث رواية، وعلم الحديث دراية، أي تتبع صحة الحديث من مسلكين؛ هل هو عقلاني معقول؟ أم أنه ضد العقل والعقلانية وليس فقط أن سنده ذهبي أو فضي أو من تنك وخارصين؟ أو بتعبير ابن خلدون ضد سنن الاجتماع، فالرجل أي ابن خلدون وضع قواعد صارمة من ست زوايا لمسك الخبر المنقول.
فقال رحمه الله : فاعلم أن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد ولا الذاهب منها بالحاضر فلا يأمن فيها الإنسان من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق وهو ماوقع لكثير من أئمة النقل والتفسير .
ثم يأتي الرجل إلى التاريخ فيحقق في ستة روايات لأئمة النقل حسب تعبيره فيفندها، مثل رواية جيش موسى البالغ 600 ألف عسكري؟ فنّده بقوانين لوجستية بحتة بقوله كيف يمكن لجيش بهذا الحجم أن يخوض حربا لايعلم آخر الجيش مايحدث في أوله.
ويذكر الرجل من خبرته في الجيوش وتنظيمها فهو رجل دولة وسياسي عاش في حضرة الحكام بل قابل السفاح تيمورلنج على أبواب دمشق، ونحن نعلم من خبر الاسكندر أنه قابل داريوس في معركة جواجاميلا بجيش بلغ تعداده 40 ألف مع 7000 فارس وهذه كانت أقصى مايمكن أن يحشد من الجيوش المقدونية.
مع ذلك فإن الوضع اللوجستي تغير حين دفع هتلر في الحرب العالمية الثانية الى الجبهة الروسية بعملية بارباروسا بخمسة ملايين جندي والسبب هو تغير الواقع اللوجستي فيمكن للجيش أن يتصل أوله بآخره فيعرف ماذا يجري فضلا عن معرفة هتلر التفصيلية لأرض المعركة من البونكر أو مخبأ الذئب (Bunker).
ويأتي ابن خلدون بنماذج أخرى مثل قصة بناء الأهرامات أو الحنايا في تونس (مخلفات قرطاجنة وحروب روما وقرطاج) أن هناك من زعم أن من بناها كانوا أقواما عمالقة يبلغ طول أحدهم مائة متر؟ ففندها وأعادها إلى قدرة الحضارات وجبروتها، بل ويذكر أن الرشيد حاول هدم بناء إيوان كسرى والمأمون في هدم الاهرامات فعجزوا فقال فهذا هو الفرق بين البناء والتخريب مع أن الخراب والفساد سهل جدا أمام البناء؟
كذلك قصص من اليمن والعباسة أخت الرشيد أنها كانت خليلة (جيرل فرند Girl Friend) للبرمكي فحصل السفاح والحمل الحرام فبطش بهم هارون الر شيد؛ فأرجعها إلى قرب العباسيين من البداوة التي تأبى اخلاق القصور وتحلل الأخلاق فيها.
والخلاصة فإن ابن خلدون لم نستفيد منه بشيء ومن (اكتشف) ابن خلدون من تراثنا فعرفناه، كانت من كشوفات مؤرخين غربيين عاشوا الحداثة ونظروا إلى التراث نظرة تاريخية، مثل المؤرخ البريطاني توينبي الذي يصف الجبرتي بأنه كان ذو حس حضاري انتبه إلى المحاكمات الفرنسية والمرافعة والدفاع في قصة سليمان الحلبي، الذي اغتال الحاكم العسكري (كليبر) الذي خلّف نابوليون الذي هرب الأخير إلى مصر عام 1801م، أكثر من فرقعات النيران وألعاب الجيش الفرنسي، وذهب توينبي إلى اعتبار أن انجاز مقدمة ابن خلدون كانت أعظم عمل أنتجه أي عقل في أي زمان ومكان (IT IS THE BEST WORK , OF ITS KIND THAT ES CREATED BY ANY MIND, IN ANY TIME OR PLACE) وهو ماحدا بمحمد عبده أن يتعمد تدريس المقدمة للطلبة في الأزهر..
ونرجع إلى قصة الدراية والرواية، فلإن الفكر الإسلامي تحنط على شاطيء النقل، فقد قتل العقل، ومع قتل العقل انهارت الحضارة الإسلامية مثل سفينة التيتانيك وما زالت باتجاه القاع..
ولذا ـ وهي فكرة انفجارية ـ اعتماد عقلية جديدة لإعادة تكرير التراث مثل تكرار السكر الخام والبترول والكحول والزيوت، من أجل الوصول إلى الأفكار الإيجابية، ومنه أيضا فهم القرآن من خلال اعتماد العلوم الإنسانية المساعدة، فلا يعقل أن نفهم مصدر الطاقة اللانهائي (القرآن) من خلال تفسير ابن كثير الذي كتبه قبل 800 سنة في ظروف الانحطاط، وهي جيدة حين يستأنس بها لفهم عصر الانحطاط؟
أما استعماله الحديث فهو يشبه الدخول على جمجمة مريض باستعمال أدوات الجراحة من أيام الرازي وابن النفيس وابن سينا أو أيام الفرعون بيبي الثاني وحتشبسوت التي أصبحت في متحف التاريخ..
إنها أفكار جدا خطيرة.. جدا انفجارية.. جدا تصحيحية ولكن لابد منها ، فلا يعقل أن يتم تبادل مثل هذا الغثاء في النت فنسمم عقول الملايين من الشباب بالترهات والخرافات..
حسنا إن أمكن الوصول إلى المصادر العلمية الموثقة فيمكن حينها النظر بمعيار الحكمة كما يقول ابن خلدون، وهنا تبدأ مرحلة ولادة العقل الإسلامي الحديث..