
آنست الأمة ردحا من تاريخ شقاوتها بتدابر كاد يقضّ مضاجعها، وطال لسان الفُرقة واستطال حتى عمّت الرّيبة وساءت النوايا وانسدت الآفاق وساد اليأس.
لكن الأمّة التي تراكمت عوامل الضعف فيها والخور، لا زالت تمتلك رصيدا في خوابي مُمكنات ميراث عريق، حيث كان لا بدّ أن تُجرب الصدام وتذهب أبعد مدى في التخلف والعصبية، كي تدرك بالحصيلة والمحصول، أن لا مناص من قيام الأمّة بنفض ما تراكم من محصول قياس إبليس، قياس مُفارق لا تمحيص ولا تنقيح فيه لمناطات الأمور والقضايا. وحين يحلّ قياس إبليس الخالي من تنقيح المناط، يفسد معه العقل نفسه الذي يصبح مُنتجا للجهل.
أمران تتطلّبهما الأمم الناهضة: حسن النية والشجاعة من أجل المعرفة، تلك الشجاعة التي تهتف أيضا بالعمل، فإن أجابها وإلاّ ارتحل.
وأمّا حسن النية فقد وضعه صاحب التّأمّلات – ديكارت – في صلب قيام التفاكر العقلي وخطاب المنهج، حيث مع فقد حسن النية، لا تقوم لا معرفة ولا اجتماع بشري. ولا تتحقق المعرفة ولا التعايش من دون تقوى تراك ترى الأشياء كما هي بوعي ظواهري مكين، حيث: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]، وبها يقوم التعارف والمعروف،حيث: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) [ الحجرات: 13]، فالمدار في العلم والاجتماع هو التقوى.
وحيث حال بين الأمة وجمع شملها، سوء النّية التي لم يستقم معه معنى في الفكر ولا تعايش في الواقع. كما أنّ الحسابات الظّنية والمحافظة على ميراث العصبية والثّأر، أفسدتا المهام التاريخية لأمّة أخرجت للناس لتكون طليعة التنوير والخلاص.
لقد بتنا جميعا عِبئا على الإسلام نفسه، مذ فضّلنا الاستجابة لنداء الغريزة بدل العقل، هذا العقل الذي التبس أكثر في كلامنا وفقهنا حتى نظرنا إليه خيارا مستقلا، دون أن نهتدي إلى أنّ العقل حاضر في كلّ حال، مع النّص فهما واستفهاما، وحين لا حاجة لنصّ في ما كان من ثوابت مُدركات الحس المشترك الذي نحن فيه سواء، وبديهي الفهم الذي لا كَلَف في طلبه. فبناء الجسور بين المذاهب الإسلامية هو في حدّ ذاته بناء الجسور بين المنصوص والمعقول على قواعد مقاصدية، قوامها استشراف مكامن القوة، حيث التعايش والنموذج وعناصر الجذب والقوة الناعمة، مقاصد لا تقوم من دون مدّ الجسور.
وعلى مقربة من البيت الحرام، وفي الشهر الفضيل، كانت دعوة جادة من رابطة العالم الإسلامي لمدّ الجسور، بحسن التنظيم وكرم الاستقبال، دامت يومين كاملين، تدارست فيهما أطياف المذاهب ومدارسها من كل بلاد العالم الإسلامي أو معضمها، هموم مد الجسور، الفريضة الغائبة التي لا زالت ترسم عصر الانسداد الأعظم.
وفي مبادرة بُوركت من الجهات العليا وتجند لها كبار العلماء، واستضافت ما يُقارب 300 عالم من العالم الإسلامي، وفي خطاب فريد فتح أفقا للتّأوّه بعد طول فُرقة وبِعاد، انطلق فيها خطاب العقل ومشاعر الإنسانية الدّافق والمقاصد العليا، تلك المقاصد التي لطالما نبّهنا حتى بححنا، أنّها هي الأخرى في حاجة إلى مقاصد تعقلها وتقيدها حتى لا تذهب في الاستحسانات الحزبية شططا.
وقد أسفر ذلك اللقاء الذي يمكن اعتباره منعطفا ولقاء تأسيسيا لمستقبل الرُّشد الذي طالما انتظرناه بتفاؤلية على الرغم من كلّ هذا الهدر الذي وقعت فيه الأمّة من قبلُ.
لقد أثارتني عبارة لسماحة الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، رئيس رابطة العالم الإسلامي، وصف فيها التحزب والطائفية بما هما أهلا له: ” العته الطائفي والسفه الحزبي”.
وهي أفضل عبارة لوصف حال الأمة في تصدّع بنيتها وتنافر أطيافها. إنّ العته أو لِنَقُل السفه الطائفي يُحمّل الأمة مسؤولية بأن تسوس مصيرها على ضرب من الاحتياط. فإن كان الشرع يمنع من إتيان السفهاء أموالنا، فبالأحرى ومن باب الأولوية القطعية التي هي مدارك الأصول من المفاهيم، أن لا نسلّم السفهاء ديننا.
حينما اعتبر القيمون على بناء الجسور أنهم في لحظة تاريخية لم نشهد لها مثيلا من قبل، وجب وضع هذا التحدي في سياقاته وشروطه. ولقد تابعت وقائع المؤتمر على امتداد جلساته، وأدركت من خلال بنية الخطاب وحدس المحتوى، أنّه خطاب جدّي لا مرية فيه. لا سيما والضامن فيه الرعاية السامية والحضور المكثف لأعضاء هيئة كبار العلماء.
إنّها وثيقة تسعى لوضع حدّ لكل تاريخ من الهمجية الطائفية والتّطرفات، والعودة إلى الموقف العُقلائي الذي قوامه حسن النّية والبحث عن المشترك، وما أكثره في عرصاتنا، حيث تضخّم وانتفخ الخلاف الوهمي كالعهن المنفوش، حتى بات ما هو مُؤتلف في صورة مُختلف، وحتى باتت بنيتنا تناقضية لا مخرج من أدوائها سوى بمبادرة تخرج من قطب إسلامي كبير، ومن مكان تهفوا إليه القلوب على مقربة من البيت المعمور.
إنّ الأمة في ذروة معاركها الخطأ، فقدت السيطرة على المعقول والمنقول، وبهذا لم تنخرط في مقتضيات الوضعية البشرية وما تتطلبه من تمكين ثقافة الآخر والغيرية التي من دونها لن نظفر بفهم لذاتنا. في عالم يتطلع إلى التسامح مع الأباعد كيف لا عجز طيلة جاهليته الطائفية عن مد الجسور مع الأقارب؟
لم أجد في خطاب القيمين على المؤتمر حرفا واحدا يعيق المُضيّ في مسار التقارب ومد الجسور. فالخطاب عنصر أساسي في التقريب، وإن كان بعض الضيوف لم يستوعبوا كامل الرسالة العميقة للمؤتمر، فبدؤوا يتحدثون عن شروط التلاقي وقيوده، فجعلوا المسببات أسبابا، وكل ذلك من تأثير المقاربات التقليدية للتقريب. هذا، بينما الغرض من اللقاء ليس التجادل حول حقائق الفقه والكلام، بل تحقيق الفريضة الغائبة، أي مد الجسور في خضمّ التنوع، وتحقيق الثورة التواصلية بين مكونات الأمة الواحدة، وجعل ذلك مكسبا حضاريا للتعاون والتكامل.
تفاعلي مع الوثيقة لا ينطلق من فراغ، بل هو حصيلة سنوات من مقاومة الطائفية والإقرار بالتنوع الجميل الذي يغني البيئة الحاضنة له بموفور من الأفكار البناءة، والدعوة إليها تُباعا منذ سنوات خلت، دعونا إلى أن تكون المذاهب مدارس قائمة ذات أثر تأويلي، بينما يظل الإطار الجامع هو الأمة، وذلك بأن يكون المذهب هو الإسلام والطائفة هي الأمة والباقي تفاصيل، وإلاّ لن نفلح أبدا.
وحينئذ عبرنا مرارا بأنّ العناوين الطارئة بفعل الاحتكاك التاريخي، هي قيم يحبل بها ميراثنا من التعاليم: فالأمة مطالبة بالتسنن اتباعا لنبيها (ص)، وهي مطالبة بالتشيع اتباعا وإكراما لآله الكرام. والباقي تفاصيل نابعة من الاعتمالات السوسيو-تاريخية والمُجادلات المدرسانية.
ولقد أدركنا من خلال اختبار مكامن الخلاف التاريخي، أنّ الأمة مطالبة بالاقتصاد في الخلاف، نظرا لأنّ التخلف يزيد من مساحة الخلاف، والعصبية تُفسد كلّ شيء، وهي مانعة للتقوى والتعارف.
تفرض الوثيقة التي أسفر عنها اللقاء ببنودها الـ28، التزاما ورشدا في استيعاب الرسالة الكبيرة، فلقد تعرض المؤتمر لكل هموم الأمة وآخرها غزّة التي اعتبرت محطّة لاستيعاب رسالة بناء الجسور.
وسيبقى هناك تحدّي كبير للتشويش على هذه الرسالة النبيلة. ذلك لأنّ تجار الأزمات والطائفيات هم من الكثر بحيث لن يتركوا الانتقال لزمن الرُّشد سلسا. وهنا الجهاد الأكبر الذي يقتضي تجنيد الطاقات لمقاومة النزعات السلبية وأساليب التشويش، لكي نساهم في رفع الغمة عن هذه الأمة. ولقد صبرنا وأمعنا في الصبر تشبثا برسالة مد الجسور، وعشنا حتى رأينا كيف أنّ إرادة الاعتقاد هي بمثابة الخيمياء الذي يحول التراب ذهبا، وتبدو التعاليم لما فُهت له وما استنبط منها.
فالتعاليم حين تحلّ في عقل سليم ومقاصد نبيلة، تصنع وضعا مُتقدّما، والتعاليم نفسها حين تحلّ في عقل شقيّ تصنع وضعا ملتبسا. إنّ مدّ الجسور مقدّمة الواجب لحلول كبرى. ولا مخرج من أزمات الأمة إلا بمبادرات من داخلها، يكتنفها الشعور بالمسؤولية، وتوجد فيها الضمانات المادية والرمزية للبلوغ بهذه الرسالة النبيلة إلى برّ الأمان.
أشكر وأتضامن مع هذه التظاهرة الفريدة في بنية خطابها الجديد وحيوية القيمين عليها وما رُصد لها من إمكانات تعزز الثقة وتمنح المستقبل عناصر واعدة، لاستنهاض الوعي بأهمية القوة والتنمية والسلام في منطقة تستحق أن نقول فيها: كفى، كفى طائفية، وكفى مُتاجرة في العصبيات.
إنّ المحبة والسلام باتت فريضة غائبة في بيئتنا الإقليمية، العصبية انحدار والمحبة سموّ، وآن الأوان أن تلتئم الأمة بوعي ثاقب يجعل وحدتها في عين تنوعها وتنوعها في عين وحدتها. إن وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية لهي مكسب تاريخي شجاع وأفق حضاري واعد، تتطلّب مُضيا إلى آخر شوط في هذا الجهاد المعرفي والحضاري، عسى أن يتحقق الفرج العظيم وتحتوي الأمة بوحدتها كل الأزمات العاصفة بكياناتها واستقرارها وسلامها وتنميتها.
اليوم من بلاد الحرمين الشريفين تنطلق وثيقة مهمّة، كان لنا الشرف أن نكون شهودا على قيام تظاهرتها العلمية، إنها بداية موفقة ستعقبها بوادر طيبة، وما كان لله ينمو، بوركت الجهود وإلى الأمام، في انتظار انفراج كبير لحفظ المصالح المشروعة وتحقيق المقاصد الكبرى، وما ذلك على الله بعزيز.