رمضان – شهر الصوم أم شهر الأكل؟
في هذا الشهر المبارك يجتمع المسلمون في كل أرجاء البريّة فيربطهم حبل الحرمان في الصوم بوثاق ربطا ويؤلف بين قلوبهم وهذا أمر حسن. لكن ذلك هو فقط وجه أول للميداليّة. إذ يختلف الحال من بلد إلى آخر ومن أسرة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. فغدا شهر الصوم هو الشهر الذي يستهلك فيه المسلمون جلّ طاقاتهم وما أوتوا من مال في ملذات الطهي وطيبات الدينا مما لذّ وطاب من المأكولات ثقيلها وخفيفها، حلوها ومالحها، ومن ثمّة الاسهاب في سبل اللهو العامة من المسلسلات والفوازير والبرامج الغنائية والأفلام من أجل تكسير الوقت أو قل قتله، ثمّ بعد ذلك السهر المتواصل، النوم وانقلاب موازين الراحة والعمل رأسا على عقب: فصار عندنا النهار سباتا والليل معاشا على عكس حكمة الخالق في الآية القرآنيّة وفي شؤون الحياة بالكون عامة.
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} (النبأ)
وانطلاقا من تفسير الآية يمكننا أن نستخلص العبرة من اختلاف الليل والنهار، الجهد والراحة، النوم والصحيان، فمن نعم الله على العباد أنه لم يخلقهم في انشغال دائم ولا عمل متواصل وإنما خلق لهم النوم لتهدأ الأجساد وتحتسي كأس راحتها حتى لا تتضرر من استمرار الحركة، كما وأنه خلق الليل لتسكن الأجساد إليه وتهدأ الأنفس من مشقة الكد، وجعل النهار مضيئاً مشرقاً لتنتعش الأجساد بعد ثباتها وتتحرك لتحصيل المعايش وتعمير الأرض.
نجد وللأسف أن احترام السليقة والخليقة لا يجد في مجتمعاتنا مكانا لا سيما في غضون شهر رمضان الكريم فضلا عن أن أغلب الأسر صار شغلها الشاغل مواعيد “مدفع” الإفطار: أولا يتساءل الفرد منّا بدون توقف، كم دقيقة تبقت للأذان؟ أذن أم لم يؤذن؟ أعطني الوقت من فضلك؟ الخ. ومن جهة أخر صارت الأسر تنفق في شهر الصوم أكثر مما تنفقه في الأشهر العادية من السّنة؟ إذن كيف تستقيم مفردة “صوم” مع مفردة “تبذير”؟ وكيف تستقيم المتضادات في “سبات/لباس” و”معاش”؟ فهل من مدكر؟
لا ينكر أحدمنّا أن الكثيرين من النّاس يقومون بعمل الخير وبهبات جليلة تجاه المحتاجين والعوذة وينفقون أموالهم في سبيل الله دون منّ أو أذى، لكن إذا أرجعنا البصر كرتين نجد أن أكثريّة كل هذه الجهود تنصب في وعاء واحد:
الطعام. نعم، الأكل والشرب وما يملأ البطن والكروش، وكلنا يعلم أنها شرّ وعاء حسب الحديث الشريف. فلماذا لا ننفق مثلا على الفقراء طيلة أيّام السنة؟ لماذا لا نعمر دور العلم والمعرفة وننفق مما أعطانا الله كما ننفق في حقيبة الصائم التي تأتي فقط في السنة مرّة واحدة؟ أين ديمومة العمل الخيريّ بين كل ذلك؟
ففي طيّ الحديث النبويّ آداب ينبغي أن نتدبرها ذلك في أمر طعامنا وشرابنا، لأنها تضفي على حيواتنا الاجتماعيّة لمسة سلوكية ولمحة جمالية رائعة، تنظم طرق تناول الوجبات وكمياتها وطرق تناولها بما يتفق مع ما توصل إليه الطب الوقائي الحديث وعلم الصحة: فلا بد أن يأكل المرء عند الجوع وإذا أكل لا يصل إلى حدّ التخمة من الشبع؛ “وبحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه”، إلى غير ذلك من الآداب الواردة في المأكل والمشرب.
رمضان – ما هي أسباب الكسل والخمول؟ كيف نتفادها؟
فشهر الصوم في أغلب البلدان العربيّة والاسلاميّة – مع استثناء مجموعات المسلمين بالبلدان الأوروبيّة المجبرة على العمل – شهر الإجازات والخمول والكسل. والأسباب التي تؤدي إلى هذه الخمول لمدة شهر بأكمله كثيرة وقد تصدى لها الأطباء بإسهاب. ذلك حينما تظهر مع الغالبية أعراض الصداع وعدم القدرة على الحركة ونجد الكثير من المظاهر السلبيّة التي تنشأ لا سيما مع بداية الشهر وربما تستمر – حسب الأطباء – حتى نهايته وذلك يعزى للحالة الفسيولوجيّة التي يعكسها الجسم على سلوك الفرد منّا أثناء الصوم، وقد تتزايد مع طول فترة الصيام والتي تصل إلى أكثر من خمسة عشرة ساعة في بعض البلدان في ظل طقس صيفي ترتفع فيه درجات الحرارة. فالحلول تكمن في أن نتغذّى بأطعمة تساعد في الحفاظ على رطوبة الجسم خلال فترة الامتناع عن الأكل والشرب من أجل تجنب الجفاف، حتى يتسنى للجسم أن يحافظ على نشاطه وحيويته خلال النهار وبعد الافطار. ومن الأسباب المهلكة لصّحة الصائم في شهر رفعت فيه آيات الامتناع والقناعة والتوسط هي الإكثار من الوجبات الدسمة وتلك هي المسببات الأساسيّة التي تولّد الخمول والكسل وقد تحد من حيوية الفرد وربما تؤدي عند البعض إلى ضيق في التنفس وبالتالي تَقِل كمية الأكسجين النافذة إلى الجسم.
كذلك السهر المستمر على طوال أيام الشهر وعدم انتظام النوم يؤديان إلى انخفاض طاقة الجسم ويحرك به موتور الكسل والتكاسل بتردد عالي. لذا ينبغي على الصائم أن يتجنب الوجبات السريعة (فاست فود) الغنيّة بالدهون والأكلات المليئة بالتوابل والتي تكثر حدّة العطش كما يجب تجنّب الحلويات (بسبوسة، وهريسة وجاتو وباسطة وووو والقائمة لا تنهي) إضافة إلى تجنب المشروبات الغازية التي تسبب الانتفاخ والغازات كما الأكل السريع.
إن تناول الأطعمة كالمخللات وإكثار الملح في الطعام يزيد من نسبة الأملاح التي تمتص الماء بالجسم فيكثف الاحساس بالعطش الشديد، أيضا الاسراف والمغالاة في شرب السوائل كالقهوة والشاي أثناء السحور يزيدان من نسبة التبوّل مما يفقد الجسم للسوائل ويجعله في حاجة إلى الماء.
رمضان في بلاد الشمال الاسكندنافيّة – هل هو نفسه في بلاد الشرق؟
يحتفي مسلمو البلاد الاسكندنافيّة في أقصى شمال القارة الأوروبيّة بشهر رمضان الكريم مثلهم مثل إخوانهم في كل أرجاء العالم. نجد شهر رمضان في هذه البقعة النائية من الكرة الأرضيّة هو أيضا شهر التأمل، ضبط النفس، الانضباط والخلوة إلى النفس الأمَّارة بالسوء لترويضها وامتلاك زمامها. لكن يكمن الفرق بين البلدان الاسكندنافية وبلاد الشرق في أن الأخيرة تغرب الشمس بها وفي الأولى لا.
إذن الاستمتاع بسبات الليل يظل أمرا نظريّا في شمال السويد مثلا أو شمال النرويج. لقد مرّت الآن ما يقرب من ١٤٠٠ سنة منذ ظهور شهر الصوم ويشكل المسلمون الآن جزءًا كبيرًا من سكان العالم. حسب آخر الإحصائيات (2010) ينطوي العالم على حوالي مليار وستة من المائة مسلم، ويمكن أن نؤمن بأن العدد قد نما بتردد مطرد منذ تلك الحقبة، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى 2.2 مليار بحلول عام 2030.
نجد الموقع الجغرافي لبعض دول الشمال يمثل اختبارا صعبا للمسلمين إذ أن توقيت بداية الصيام والإفطار قد حدده القرآن بالنص في تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود عند الفجر.
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة/187)
لذلك يجب على الصائمين في شمال أوروبا الامتثال لهذا الحكم بنفس الطريقة التي يلتزم بها المسلمون في ألمانيا أو المملكة العربية السعودية. ولكن في أقصى الشمال يستغرق يوم الصيف بعض الأحيان أكثر من 20 ساعة، وذلك أمر شائع فضلا عن أن شهر رمضان لا يتزامن كل سنة – حسب التأريخ القمريّ – مع السنة التي سبقتها فلم يعد رمضان في عام 2020 يتزامن مع الانقلاب الصيفي – كما كانت الحال في عام 2016 مثلا.
إذن لا تزال مشكلة الصوم قائمة في هذا العام أيضًا، وسيستمر اليوم إلى أكثر من 17 ساعة كاملة اعتبارًا من منتصف شهر مايو.
إذن إنه من الصعب التوفيق بين الظروف الجيولوجية في شمال أوروبا والمفهوم التقليدي للصيام حسب المساطر والشرع الاسلاميّ، لذلك نجد المسلمين في السويد والنرويج وفنلندا وأيسلندا وكندا وروسيا يتأثرون بشكل خطير بالفارق الزمنيّ، والجدير بالذكر أن المناطق الشمالية من أوروبا ليست وحدها واقعة في هذا الظرف إذ يواجه أكثر من نصف مليون مؤمن في مناطق مماثلة السؤال التالي: كيف يجب أن أصوم وأفطر حسب قاعدة شروق أو غروب الشمس في بلدي انطلاقا من تفسير الآية أعلاه؟
اختلاف فتاوى الفقهاء باختلاف البلدان في شأن دول الشمال – لماذا؟
يبدو من أول وهلة أن العلماء في السويد يواجهون صعوبة في الإدلاء ببيان نهائي يحسم المسألة وذلك يعزى للإجراءات العديدة التي اتخذتها المراكز العلمية في العالم العربي من خلال موقفين متباينين: فقد أصدر العلماء المصريون ذوو الفقه الليبرالي فتوى يخدمون فيها المسلمين الذين يعيشون في البلدان التي يستمر فيها الصوم لمدة 18 ساعة على الأقل تسمح لهم إما بمتابعة أوقات مكة المكرمة أو المدينة المنورة أو توجيه القبلة في الصيام إلى أقرب بلد إسلامي من بلدان الجوار.
بينما يتخذ الفقهاء السلفيون في المملكة العربية السعودية موقفا متشددا تجاه المسألة يحمل في طياته اختلافا جذريا عن نظيره الأزهريّ، يقولون: طالما يمكن تمييز الليل عن النهار، فيجب على المسلمين – بغض النظر عن أي مكان في العالم – اتباع الصوم التقليدي الذي شرعه الله في آي الذكر الحكيم.
إضافة إلى هذه الفتاوى نجد فتاوى أخرى للعديد من المؤسسات الفقهيّة بأوروبا وبالتالي تكثر الآراء في هذا السياق. إذن، لا توجد سلطة مركزية في التشريع السني يمكنها إصدار فتاوى بصلاحية مطلقة، والسؤال الذي يطرح نفسه ها هنا: كيف يتخذ المسلمون القرار الصحيح للصيام انطلاقا من هذا أو ذاك الرأي، حتى وإن كان مثيرا للجدل؟ في نهاية المطاف، هل هناك حل أوسط لحل المسألة أم يجب على كل مسلم أن يجد طريقه الشخصي المجدي لحل هذه القضيّة الفقهية؟ كل عام والجميع بخير.