ترشح الفيلم التونسي “بنات الفة” للمخرجة كوثر بن هنية “Four Daughters” ضمن القائمة القصيرة لأفضل فيلم وثائقي عالمي في النسخة ال 96 للاوسكار، كما حاز على جائزة سيزار الفرنسية لافضل فيلم وثائقي.
وينافس الفيلم على “السعفة الذهبية” للدورة 76 لمهرجان كان، كما حصد الفيلم ثلاث جوائز دفعة واحدة في المهرجان نفسه.
ويعد هذا الترشح لجائزة الأوسكار الثاني للمخرجة التونسية, بعد ترشح فيلمها “الرجل الذي باع ظهره” لفئة أفضل فيلم عالمي.
تدور أحداث “بنات الفة” أو ّالبنات الأربع” حول “ألفة” الأم التونسية لأربع بنات صغيرات السن (رحمة وغفران وتيسير وآية)، انجرفت الكبيرتان منهن نحو التطرف.
ويبدو أنهما فعلتا ذلك عن عدم فهم أو تحت التأثير بحكم سنهما حيث إنضمتا وهما في سن المراهقة، إلى ما يعرف “بتنظيم الدولة الإسلامية” المصنفة كجماعة إرهابية في ليبيا.
ما هو واضح من الفيلم ان الأحداث الحقيقية جرت في فترة ما بعد الأحداث في تونس عام 2011 وما شهدته البلاد من تسفير شبابها الى بِؤر التوتر في ليبيا وسوريا والعراق، حيث تشير التقديرات الى إنضمام قرابة 6000 من الشباب التونسيين الى التنظيم الذي يعرف أيضا “بداعش” بحلول 2015، وتعتبر تلك من أحلك الفترات في تاريخ تونس الحديث.
وتصدر إسم رحمة وغفران الشيخاوي عناوين الأخبار في عام 2016, حين ظهرت الام ألفة الحمروني على شاشات التلفزة التونسية معلنة تطرف ابنتيها المراهقتين وانهما غادرتا تونس للقتال في صفوف “داعش” في ليبيا،وأنها حذرت السلطات وطلبت منها المساعدة لاعادتهما في محاولة يائسة للحفاظ على إبنتيها من المصير الغامض.
ويذكر أن هناك العديد من الصور لفتيات مثل الاختين الشيخاوي, اللاتي إنضممن لما يعرف ب” تنظيم الدولة الاسلامية” في ذروته.
وقدر تقرير صدر في لندن عام 2018 أن اكثر من 4700 مواطنة من أصول اجنبية في بريطانيا ارتبطن بأنشطة ذلك التنظيم في العراق وسوريا بين 2013 و2018.
وجردت فتاة بريطانية هي شاميما بيغوم, التي انضمت إلى “داعش” في سن ال 15 من جنسيتها البريطانية, رغم ان محامييها استانفوا الحكم على أساس انه تم استدراجها من قبل التنظيم.
ويذكر أنه القي القبض على الاختين الشيخاوي في ليبيا لاحقا, وفي عام 2023 حكم عليهما بالسجن لمدة 16 عاما بعد أن أنجبت غفران طفلة في سجن ليبي. أما والد الطفلة فاطمة التي تبلغ من العمر الآن ثماني سنوات لكنها لم تر النور أبدا، فهو أحد قادة التنظيم وقتل في غارة امريكية.
ويتتبع الفيلم رحلة ألفة في البحث عن بنتيها والصعوبات التي واجهتها, كما يحاول فهم الأسباب التي تدفع الشباب إلى الإنضمام للتنظيمات الإرهابية. وتقول المخرجة التونسية كوثر بن هنية ” لديك العناوين الرئيسية, ولكن ماذا وراء هذه العناوين؟ هنا يأتي دور السينما.”
وتضيف بن هنية انها كانت تهتم بفهم الأسباب التي تدفع البنات والنساء الى التطرف والتورط في الإرهاب, إذ إعتدنا قيام الرجال بذلك.
في البداية كن أربع أخوات مفعمات بالحيوية والجمال لأم تقول إنها تكره الإناث, لكنها في الوقت ذاته تكره الذكور أيضا بسبب تجربتها الشخصية.
ما يبدو واضحا من الفيلم أن ألفة الحمروني عانت من سوء المعاملة عندما كانت في سن الشباب, متذكرة أنها عندما كانت مراهقة وفي غياب والدها, حاولت حماية والدتها وأخواتها البنات.
تركز عدسة بن هنية على الأم ألفة وهي تنظر بخوف إلى بناتها النابضات بالحياة وتغضب عليهن بسبب خيالها الذي يجعلها تتصور أشياء لا تفكر فيها بناتها. وفي وقت لاحق, أصبحت ألفة التي تربي بناتها بمفردها, تلجأ الى العنف معهن, خوفا من أن يصبحن ما يصفه الفيلم “بالفاسقات”.
وعندما صبغت غفران شعرها وحلقت ساقيها, تتذكر ألفة انها ضربتها ضربا مبرحا, وقالت إنها إعتبرت إبنتها في عداد الموتى نتيجة لذلك.
في البداية رحبت ألفة بفكرة إرتداء إبنتها غفران النقاب, ظنا منها أنه مجرد شكل من أشكال الحجاب , لكن سرعان ما أدركت أن الأمر أخطر من ذلك بكثير. اذ بدأت البنتان تتحدثان عن الموت والشهادة وتحاولان التاثير على والدتهما وأختيهما الصغيرتين. أخذ الخوف يستبد بألفة وبدات تبحث عن طريقة لتخليصهما من قبضة التطرف.
تحاول عدسة كوثر بن هنية تسليط الضوء من خلال “بنات ألفة” على العنف العاطفي واللفظي والجسدي الذي عاشته الفة من خلال زواجها من رجل عنيف وعلاقتها بآخر كان مسجونا بتهمة القتل, وغياب صورة الأب في حياتها وحياة بناتها, وتكرارها لكل ذلك لانها لا تعرف كيف تتعامل معهن كلما شعرت انها فقدت السيطرة.
قصة انتقال العدوى من الأم الى إبنتيها ومن جيل الى آخر, اذ تشير ألفة إلى دورة الأجيال هذه في الفيلم باسم “اللعنة. لذلك ما عاشته عندما كانت طفلة ثم شابة, كررته مع بناتها دون وعي. وفهمت خلال أحداث الفيلم ما كان يحدث معها, وكيف ترك هذا الإرث من الصدمات بصمته عليها وعلى بناتها أيضا.
يسلط الفيلم أيضا الضوء على العقلية الذكورية المتحجرة التي تبدو مستعدة لادانة الاناث لمجرد انهن اناث وفي المقابل مستعدة لتبرئة ساحة الذكور.
فيلم مبتكر يجمع بين الطابع الروائي والوثائقي يمزج بين ذكريات الأم والبنتين الصغيرتين, وجمعيهن يتقن السرد بشكل صادق ومؤثر جدا, مع إعادة بناء درامية حيث إختارت بن هنية ممثلتين شابتين للعب دور رحمة وغفران, بتوجيه من الام والابنتين الصغيرتين لمشاركة ذكرياتهن وما حدث معهن في حوار عميق وصريح بين الممثل والشخصية الحقيقية.
تجدر الإشارة الى أن الأم ألفة هي التي إختارت الممثلة التونسية – المصرية القديرة هند صبري لتقوم بدورها في بعض المشاهد التي كانت مؤلمة وصعبة للغاية على الام.
وفي الفيلم تقوم هند صبري بمساءلة الأم عن تصرفاتها مع بناتها وطريقة تفكيرها, مع الإشارة أيضا الى ان هند صبري رغم تأكيدها أنها كممثلة تعلمت ترك مسافة بينها وبين الشخصية حماية لنفسها حتى لا تتأثر كثيرا, إلا أنها لم تتمالك عن البكاء بحرقة في أحد المشاهد التي ظهرت فيها الام ألفة الحقيقية وهي تتحدث عن إبنتيها المسجونتين في ليبيا.
ينتهي الفيلم بمشهد لالفة, الأم وهي تداعب قطتها الحامل وتصرح للمخرجة أنها كانت مثل القطة التي تاكل أولادها خوفا عليهم, وتضيف ” كنت خائفة عليهم جدا, لم أكلهم لكني لم اعرف كيف أحميهم, وبالتالي فقدتهم.”
فيلم مؤلم يتناول كدمات الأم والبنتين الصغيرتين بالتحديد, ليس من أجل التاثير الدرامي وانما لتعرية الواقع الأليم, وكأنه يقول للأولياء” إحموا أبناءكم وبناتكم”, لكنه أيضا ملئ بالمحبة وروح الدعابة التي فيها الكثير من الجرأة والتحدي.
كتونسية, وجدت بعض العبارات مثيرة للضحك, لكني أدركت ان الضحك لا يتلاءم مع الألم الذي تعيشه الأم وبناتها وكل أسرة في العالم العربي والإسلامي وحتى في أوروبا فقدت بناتها وأبناءها للتطرف والإرهاب.
تجدر الإشارة إلى أن فيلم ” بنات ألفة” يعرض حاليا في قاعات السينما في لندن, لكن من الغريب انه رغم الجوائز التي حازها وحديث وسائل الاعلام ومنابر التواصل والنقاد عنه, فهو غير مدرج في مهرجان أفلام منظمة هيومن رايتس ووتش Human Rights Watch لحقوق الانسان الجاري حاليا في لندن ولا في مهرجان الفنانات العربيات اللاتي تعرض أعمالهن في العاصمة البريطانية منذ مطلع الشهر الحالي.