لقاء مونت كارلو مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في الـ 27 من فبراير 2024، كان رسالةً سيكولوجية بمقصٍ فرنسي، أصلُ مثل هكذا رسائل بدأ مع الزعيم الأب مصطفى بارزاني في منتصف يناير 1965.
استخدم فيه الأب الولايات المتحدة كصندوقِ بريدٍ دبلوماسي، طالباً منها “التدخُّل مع بغداد، معترِفاً بأنَّه قد اشتط بعيداً في مطالباته لها”. دماغ اليانكي حلَّل الرسالة وقتها بأنها ” حربٌ سيكولوجية”، بحسب ما نقله براين آر غيبسون من تقارير الـ CIA.
النتيجة، بغداد تنشَّقت روائح ضعفٍ كاذبة في كلمات بارزاني. حاولت إخضاعه بالقنابل و الرصاص. المقصان الإيراني و الإسرائيلي كانا حاضرين عموماً في كُل أنواع القصَّات السياسية لأربيل منذُ ستينيات القرن الماضي.
كان مظهر وضع اليدين للزعيم بارزاني في 2024 على الحاسوب المحمول “اللاب توب” موحياً. محاولة على الأرجح لغسل اللون القَبَلْي من زيَّه العراقي الكردي و تصويره كـ “ملا لبرالي”. دانا شميدت و هو صحافيٌ أمريكي، غسل تاريخياً ثياب أبيه السياسية التي جعلته “الملا الأحمر” في عيون الولايات المتحدة.
استخدم مساحيق مقالات عديدة، لتنظيفه إيديولوجياً من السنوات الطويلة التي قضاها منفياً في الاتحاد السوفييتي.
أمّا رجفة اليدين للزعيم الأبن أمام مونت كارلو فقد كانت غير متسِقة مع لغة جسده. ظهر جسدهُ كبطارية تستطيعُ تزويدهُ بخمسين سنةٍ قادمة. باختصار و في جملة “في العراق ما فات ما مات ليُصبحَ تاريخاً بل حاضراً و قَرنَيْ مستقبل”.
بارزاني 2024 يشعرُ بالقلق بعد اتضاح انفلاق بيئة العراق السياسية إلى عراقين، العراق الإيراني والعراق الأمريكي.
بارزاني أعلن ذلك في فبراير الماضي 2023، عن طريق مدير مكتبه السابق و وزير خارجية العراق حالياً فؤاد حسين، عندما ذهب إلى واشنطن في ذلك التاريخ، لمناقشة تفعيل “اتفاقية الإطار الاستراتيجية” الموقَّعة بينهما في 2008.
الوزير حسين صفَّر العراق و ناشطيه السياسيين من أيَّة إيديولوجيات قد تكون مُعادية للأمريكيين. هكذا، بعد أن حلق ذقن السياسة في العراق من الإيديولوجيات، مرَّغ وجه كلماته بعدها بعطر اللاسيادة “نريدكم هناك معنا”.
براين آر غيبسون ذهب كذلك إلى أن العراق في سبعينيات القرن الماضي كان بدوره “عراقين” في العيون الأمريكية.
عراق يُديره الراديكاليون القوميون، و “العراق الآخر” بدا براغماتياً و قابلاً للانفتاح على الغرب عموماً . لهذا فإنَّ الزعيم بارزاني و هو الوارث لسياسة “المفاوضات و تدويل القضايا”.
أسلوبٌ يتبعهُ القادة ذوي الطموحات الانفصالية بحسب فريدريك فيسلاو، يشعرُ بأنَّه أعطى و لم يأخذ عكس سياسة سلفه “خذ ولا تُعطي”، الناتجة من دسم الورقة الكردية، في حلبة تنافس القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.. عربية و غير عربية.
قلق بارزاني إنَّ شريكهُ الشيعي في عراق ما بعد 2003، و الذي تطوَّر إلى “الإطار التنسيقي”، بات شبيهاً بجناح الرئيسين العراقيين الأسبقين البكر – صدام في (17-30) تموز 1968 و الذي سيفوز على الأرجح لا بالتصفية الجسدية للخصوم كما حصل في ذلك التاريخ، لكن بقلع أظافر السُلطة المُخربِشة من أصابع جميع المكوِّنات.
هذا الجِناح يمتلِكُ كُل أدوات القوة الشبيهة بنظيرتها عند رئيسة وزراء بريطانيا الأسبق، الحديدية مارغريت تاتشر.
وزير الخارجية في عهدها انتوني آكلاند ذكر ما كانت تمتلكه في الوايتهول “كان لديها سياسيين، كان لديها مُقرَّبين، كان لديها صِحافيين، كان لديها رِجال أعمال.. كان لديها محتالين، كُل أنواع البشر الغريبين كان لديهم تواجد”.
هذا الانقلاب الشتوي للشريك الشيعي (أغلب البيانات الرسمية المثيرة للجدل و التي تخص السياسة الخارجية للعراق صدرت في هذا الفصل المتعارف عليه بأنه ذو لونٍ أبيض) يأتي من مصادرٍ ثلاث رئيسية. أوَّلُها هي “الصفقة السويسرية الجديدة” بين طهران و واشنطن.
النُسخة السلف قدَّمها نظام الملالي في طهران بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، و اختصارها “دعم قيام حكومة عراقية علمانية في العراق لا دينية مقابل رفع العقوبات عن إيران”. تريتا بارزي تحدَّث عنها بشكلٍ موثَّق في كتابه ذو العنوان الرئيسي “حلف المصالح المشتركة” بين طهران و تل ابيب و واشنطن.
المصدر الثاني ذو علاقة بالشركاء المُسلَّحين للنظام في بغداد، خاصَّةً الأصول الإيرانية الصافيَّة في البلاد مثل “النُجباء” و “كتائب حزب الله”.
باتوا يُهدِّدون القوى الشيعية التقليدية مثل حزب الدعوة الإسلامية، تيار الحكمة، و حتّى منظمة بدر. هم بعد كُل شيء ليسوا سوى صنيعة رئيس الحكومة الأسبق السيد نوري المالكي. لم يكتفِ وقتها بصناعة عصائب أهل الحق كي يضمن نوعاً من التوازنات بين هذا “الباسيج” العراقي.
مفردة الباسيج استخدمها في عرض أمنياته على الجانب الإيراني في 2014، عندما أفلس من الدعم الأمريكي لولايته الثالثة. اصبحت هذه الأصول الإيرانية الصافية، و بحسب فضيحة التسجيلات المُسرَّبة للمالكي دُمى.. إمَّا للإطلاعات و إمَّا للحرس الثوري الإيرانيتين، بدون وساطة أو عصا تَحَكُم التقليديين. للتذكير، هو فضَّل الحرس الثوري في تلك التسجيلات.
الثالث و الأهم إنَّ “العراق الآخر” الذي أعلن عنه الشريك الكردي في واشنطن، ما زال غامضاً و قابلاً للارتداد على عُقبيه إيرانياً، لذا فإنَّ الأمريكيين ما زالوا يتعاملون بسياسة “انظر و انتظر” معه.
هذه السياسة ليست وليدة اليوم و إنَّما تحمل عمر ستَّة عقود. النتيجة، إنَّ إصدار ورقة الطلاق الرسمي للعراق الأمريكي عن نظيره الإيراني باتت حتميَّة. طبعاً، الطلاق لن يأخذ شيئاً من صلاحيات الزواج شبه الكاثوليكي الحالي بين بغداد و طهران.
ريموند هينبوش و في كتابه “السياسات الدولية للشرق الأوسط”، يقدِّمُ صورة قدرية عن النظام الإقليمي للشرق الأوسط الذي لا يمكن للدول فيه إلَّا أن تكون صاحبة خيارين.
إمَّا مع الوضع الراهن و المقصود به عملياً الارتباط مع الغرب و إمّا تعديل الوضع الراهن، أي الارتباط مع بكين حالياً عن طريق همزة الوصل الإيرانية. طبعاً، العراق لا يمتلك قُدرة التعديل و إلَّا أصبح معزولاً دولياً كما هو محلياً. هو الآن لا يصلح إلَّا للدوران في المدار الغربي.
النظام الحالي و الذي ينعكس شكله في حكومة “الإطار التنسيقي” هو مؤمنٌ بأنه لا يستطيع كسب الشرعية خارج المجموعات المستفيدة منه، ولا يمكن أن يُفكِّر بها إلَّا بعد تغيير النظام البرلماني الحالي إلى نظامٍ رئاسي، أو يكون فيه الشكل الرئاسي هو الحاكم على شريكٍ برلماني صِوَرْي.
عودة الاغتيالات، قمع الصحافيين و اعتقالهم، إشارات تحذيرية لمن يود التأثير على مصائر هذا النظام غير المكتمل، صاحب شعار “لا شرقية ولا غربية”.
دور الولايات المتحدة و إلى إشعارٍ آخر سيكون حماية النظام من الشعب و المعارضين و كتابة قوائم الاسماء الخطرة التي لا بد من تصفيتها إنسانياً! أسلوبٌ أمريكي، بريطاني، و إيراني عريق سيروي العراق خلال المرحلة القادمة.