تنشط معاهد تحفيظ القرآن في العالم العربي أكثر من فطر الغابات، ومع زيادة معاهد (التحفيظ) يزداد الحفظ على الأوضاع السيئة، وأتذكر من مدينة (فولفسبورغ Wolfsburg) الألمانية اجتمعت بمجموعة من العمال التونسيين الذين يعملون في مصنع سيارات فولكسفاجن (VOLKSWAGEN).
وتعني عربة الشعب وهي من بنات أفكار هتلر وليست الوحيدة ففكرة الطرق السريعة كانت من وحيه أيضا وأولها كان الطريق الممتد بين فرانكفورت ودارمشتات، وفكرته خلفها إمكانية إرسال قطعات الجنود بسرعة إلى الجبهات.
وفي مدينة سيارة الشعب هذه كان العمال التوانسة يهزون رؤوسهم أمام الموجه السوري المشرف عليهم وكان حريصا أن يجعل أحدهم يقرأ (أكبر) كمية من الآيات مع مخارج حروف سليمة؛ فلما حاولت أن أغيّر تيار القراءة بتحويل المسار إلى شيء من الفهم فسألت أحدهم عن معنى كلمة احمرت عينا الموجه. واعتبرني من مقلقي النوم العام وخطرا على الديانة؟ ومن الأفضل المحافظة على عقولهم في حالة سبات شتوي.
وفي مدينة على الحدود (الهولندية) في مدينة (جروناو =Gronau) اجتمعت بطائفة من الأطباء من اختصاصات مرموقة فلاحظت أن من المشرف على (الحلقة) كان حريصاً على إدخالهم نفق الحفظ. وابتدأ بأول وأكبر سورة من القرآن البقرة متعمدا قلب السياق القرآني، عكس السياق التربوي للصحابة بالقرآن المكي. وزيادة في الأستاذية كان يحفظهم عشر آيات في كل جلسة مثل كتاتيب العصر العثماني، ويتسمع الأطباء فردا فردا، فينقضي الوقت وهو يصلح مخارج حروفهم بدل تحرير مسالك عقولهم.
وكان يدخل في روعهم أن من (يحفظ) كل القرآن (يفهم) كل العالم. كما يحصل للصيدلي الذي يحفظ أسماء الأدوية ويظن في نفسه أنه أصبح مختصا في كل فروع الطب.
ومثل من يقول أن من خزن القرآن في ديسك كمبيوتري يعني أن الكمبيويتر أصبح سيد الفقهاء.
وبالمقابل فلا توجد آية واحدة في القرآن تقول احفظوا القرآن مقابل عشرات الآيات في فهمه وتدبره وإدراك معانيه هل في ذلك قسم لذي حجر (4 آيات في التدبر و 18 في التفكير و 22 يعقلون) ؟. ولم يكن الصحابي (يتجاوز) العشر آيات قبل أن يعيها ويعمل بها.
ومع أن القرآن يقول عن نفسه أنه محفوظ وفي اللوح المحفوظ وتعهد الرب بحفظه بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فإن العالم الإسلامي منهمك بإنشاء مدارس ومعاهد لتحفيظ القرآن أكثر من إنشاء مؤسسات لفهمه وفك أسراره في علم النفس والاجتماع والانثروبولوجيا والكوسمولوجيا.
وينقل عن الإمام محمد عبده حينما يخبره البعض فرحين بأن فلاناً حفظ كتاب الله لم يكن من الفرحين، وكان تعليقه أن نسخ القرآن زادت نسخة. وعلى طول التاريخ كان عدد من يحفظ القرآن يزداد ووضع العالم الإسلامي يزداد انحدارا وتخبطا. بسبب سيطرة العقل (النقلي) وغياب العقل (النقدي). والفرق بين الاثنين يشبه الفرق بين الحي والميت. مثل تشابه البيضة للبيضة بين أن تكون بيضة مسلوقة وبين أن يخرج من الثانية ديك يصيح على السياج.
وفي بلد عربي قتل النظام السياسي في ليلة واحدة ألف معتقل إسلامي أعزل، وفي اليوم التالي كان ينشيء معاهد تحفيظ القرآن بقدر عدد ضحاياه السياسيين. يدشنها ويشرف عليها بحرص مفتي بعمامة كبيرة. في بلد انقلب إلى مقبرة يمشي فيها حفار بمعول وقبور تبلع وجثث تتوافد وصمت يسود ومعاهد لتحفيظ القرآن يزداد عددها وواقع سياسي يزداد بؤساً.
ما معنى هذا الكلام ؟القرآن يقول إقرؤا ما تيسر منه ولا بأس بحفظ آيات تعين في الصلاة مبنية على أساس من الفهم. ومن تبحر في الفهم واستغرقه جمال القرآن كما حصل معي أنا شخصيا وأراد التوسع في فهمه وإضافة المزيد من كميات الحفظ إلى حين اكتمال حفظه ثم (المحافظة) عليه يوميا وهو أشق بما لا يقارن فهو مؤشر صحي. ولكن الحفظ مع عدم الفهم لن يزيد أوضاعنا إلا خبالا.
وعوام الأتراك يحفظون القرآن بدون فهم فقرة واحدة. وهو قلب لوظيفة اللغة كوسيلة تفاهم لتتحول إلى أمواج تصويت كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً.
ومثل من يتكلم الصربية إلى رجل من الاسكيمو؟، والقرآن مبني على الفقه والفهم ولولا نفر طائفة منهم ليتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. كما فعل الجن حينما استمعوا القرآن فارتعشت قلوبهم لذكره ورجعوا إلى قومهم منذرين فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به.
فالذي غيرهم وخشعت قلوبهم لذكره هو المعنى المتدفق من تضاعيف ورحم الكلمات وليس القوالب اللفظية. فسحر القرآن هو من ذلك العمق المعرفي وليس بالكلمات الميتة.
والذي غيّر العرب لم يكن شعرا بل قرآنا عربيا لقوم يعقلون. قرآنا يقلب أوضاعهم السياسية رأسا على عقب.
ولذا حاربه الطغاة لأنه قتل مصالحهم واعتنقه الفقراء والمستضعفون لأنه انتصر لقضيتهم. ومن الغريب أن معاهد تحفيظ القرآن ينشط في بناءها الأغنياء والطغاة.
لأنهم يعلمون أن الحفظ سيحافظ على أوضاعهم. àإن الحفظ بدون الفهم لا يزيد عن آلة حديد تسجل مثل أي مسجلة تباع في السوق. والعقل الإنساني يقوم على الفهم الذي يغير السلوك. سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون.
ولكننا من خلال الكارثة الثقافية التي حلت بالعالم الإٍسلامي ظننا أن الحفظ يعني الفهم مثل من يتسلق ظل الجبل وهو يظن أنه يتسلق الجبل.
وهي تذكر بقصة شولم شولم من كليلة ودمنة حينما سمع اللص صاحب البيت وهو يقص خبرا عن شعاع القمر وأن من تسلقه هبط بسلام ففعل صاحبنا اللص لينزل البيت فيسرق فوقع ودقت عنقه.