بقلم: الحسين بوخرطة
الحرية أساس النماء والتفوق الذاتي والوطني والجهوي والحضاري. سرعة حركية المعلومة والفكرة العلمية بين الأفراد والجماعات، في سياق مجتمع مؤسساتي مسؤول ومنفتح يضمن ترسيخ الخلاصات في الأذهان، تقوي التماسك بين أفعال وسلوكيات الشعوب والمعارف المتنوعة وتطور التكنولوجيا والعلوم المختلفة.
إنها خلاصة أطرحها للنقاش مستحضرا شذرات من كتاب التاريخاني عبد الله العروي “خواطر الصباح، يوميات (1967 – 1973)”. فما ترتب عن الثورات الثقافية الغربية في القرنين السابع والثامن عشر، إضافة إلى ما تجسد من وضوح تام في التعاطي مع مفهوم القطيعة المنهجية والإبستمولوجية مع تراث الماضي.
أفرز نموذجين حضاريين غربيين متباينين: النموذج الأمريكي والنموذج الأوروبي. لقد رصص الأمريكان الأسس المعرفية والثقافية الضامنة لاستمرارية تفوقهم العالمي في مجمل القطاعات الحيوية. لقد صقلوا التراث الحضاري البريطاني متجاوزين إياه في كل المجالات.
التربية والتكوين والتنشئة بالولايات المتحدة الأمريكية تخضع لشروط الجودة العليا وقوة ارتباطاتها بالدرابة اليدوية والمعرفة الثقافية ووفرة الإنتاج المادي والاطلاع الواسع بالقانون وثقافة تدبير الشأن العام.
لقد أكدت صفحات التاريخ أن ما ورثته المجتمعات العربية عامة والمجتمع المغربي خاصة من الدول المستعمرة، لم تتحول إلى فرص سانحة لتسريع تحقيق النماء على أساس نجاعة فعل الموارد البشرية والرفع من مستوى تفاعلها مع الطبيعة بإمكانياتها وقواها، وما تستدعيه من كشوفات علمية وتقنية للسيطرة عليها وسبر أغوار أسرارها.
الأمريكيون، يقول العروي (ص 45)، يتكلمون كما يتنفسون (كلام ديمقراطي) وبدون تمتمة الإنجليز المصطنعة (كلام أرستوقراطي). الطلبة الأمريكان غير معتادين على “التصميم”. وأضاف أنه ليس مقتنعا بأن الطريقة الكلاسيكية التي يفخر بها الأوروبيون، والتي ورثناها نحن المغاربة المحدثون عن الفرنسيين، هي المثلى.
نعم، يبرر العروي، إن “التصميم” يفرض أحكاما مسبقة، وإنه يحد من حرية التفكير. قلما نجد عند الطالب الأوروبي، وبالأحرى العربي، تلك العفوية التي نلمسها عند الأمريكي. كلما ضعف مستوى الحرية، كلما زادت حدة التمتمة في النقاشات والجدالات والمبالغة في “تصميم” الخطابات السياسية والإفراط في النفاق الاجتماعي والثقافي، وكلما توسعت الهوة بين العقلين النظري والعملي…
وللتعبير على المفارقات السالفة الذكر، قدم العروي ما وقع للطيفة زوجته في أمريكا: “هذا الصباح طرقت لطيفة باب مكتبي وهي في غاية الاضطراب. قالت إنها كانت تقود السيارة في طريقها إلى الجامعة والمطر يتهاطل بغزارة.
شعرت أنها اصطدمت بشيء، لكنها لم تعرف ماذا بالضبط فضلت أن تلحق بي في الحال وتخبرني بالحادث. قالت إنها لا تعتقد أن أحدا رآها إذ بدت لها الطريق فارغة تماما.
هدأت روعها وطلبت منها أن تذهب في الحين عند الطبيب ليكشف عن حقيقة حالها. بعد نصف ساعة تقريبا حضر شاب قال إنه طالب في الجامعة وإنه صاحب السيارة.
كيف توصل إلي؟ هذه هي لوس أنجلس! هذه هي أمريكا! تظن أنك وحيد في صحراء ثم تكتشف أن كل ما تقوله يسجل وما تفعله يصور. اللافت للانتباه هو أن هذا الطالب الذي لا يتجاوز عمره العشرين سنة كلمني بهدوء ورصانة كما لو كان محاميا محنكا.
قال إنه لا يود أن يذهب إلى القضاء إذ لا يليق بطالب أن يقاضي أستاذا رغم أن المخالفة تعد من أخطر المخالفات في أمريكا. وشرع يحكي ما حصل لبعض من غادروا مكان الحادث وكيف أدى بهم ذلك إلى الإفلاس. وأخيرا اقترح علي أن نتفاصل على أساس أن أتحمل تكاليف إصلاح سيارته وتعويضه على مصاريف النقل أثناء عملية الإصلاح. قال هذا وهو مقتنع أنه يحسن إلي”.
تعقيبا على هذا الحدث، دعانا العروي أن نقارن بين التربية التي أدت إلى هذا التصرف وتربيتنا نحن إذ نجد الشاب فوق العشرين لا يقدم ولا يؤخر رجلا إلا مصحوبا بأحد أقاربه.
وأضاف: “قبل الحماية كان ابن السابعة عشر يغامر لأنه كان يعرف قواعد المجتمع. كانت تربيتنا ملائمة للواقع. ثم جاء الاستعمار فأقصى المغاربة عن المجال العمومي.
حاصرهم في بيوتهم أو بيوت الله فأصبحوا كلما تخطوا عتبتها يواجهون عالما غريبا عنهم يجهلون قواعده. هذا هو أصل العجز المتمكن في نفوسنا”.
تعبيرا على جودة التعليم الأمريكي، تطرق العروي في نفس الكتاب لطبيعة العلاقة بين المتعلم والأستاذ: ” لا يسجل بين قائمة المستمعين إلا من له اهتمام حقيقي بالموضوع.
الطالب هناك كالمشاهد في قاعة العرض، أدى ثمن المقعد فينتظر أن يستمع إلى محاضرة شيقة. ينصت، يتفهم، لا يضيع أية دقيقة إذ الدقيقة ثمينة….. الأستاذ في أمريكا يحضر كل يوم عمل إلى مقر الجامعة – الدراسة مكلفة – لا يضيع وقتا يساوي مئات الدولارات. يلح أن يكون الأستاذ تحت اليد كلما احتاج إلى إرشاده (العادة: الأستاذ يترك باب مكتبه مفتوحا)”.
الفجوة بين تطور الحضارتين الأمريكية والأوربية تتفاقم. على لسان لطيفة يقول العروي: “لا وجه للمقارنة بين الطبيب الأمريكي والطبيب الفرنسي. لا ينحصر امتياز الأول في جودة التجهيزات بل يتعلق أساسا بالعناية.
تتكلم طويلا عن حرارة الدكتور ديغنم وعن برودة واستعلاء فيلي الفرنسي الذي لم يستطع إنقاذ نعمان”.
الوضعية الصينية والروسية والهندية تحتاج إلى تعميق البحث والتأمل. جهود بناء الحداثة بالمغرب بتراكمات السياسات والبرامج الرامية إلى عصرنة مؤسساته واقتصاده تكتسب يوما بعد يوم شرعية نعتها بالخصوصية مقارنة مع الدول العربية والإفريقية (تنامي القدرة على الندية في العلاقات الدولية).
تواكل عدد كبير من الأفراد واعتمادهم على الوساطات في استغلال التسهيلات التي تقدمها التكنولوجيات الحديثة والمعلوميات للاستفادة من الخدمات العمومية والخاصة تثير نوعا من القلق.
المواطن يقاوم بشكل لاإرادي عروض تقوية مواطنته، مفضلا المكوث في وضعية الرعاية. عدد كبير من الفاعلين في القطاعين الخاص والعام (إخواننا وأخواتنا وأصدقاؤنا وأقربائنا …) يقاومون إرادة التغيير لما يجنون من وضعية الجمود من منافع غير مشروعة.
الآليات التكنولوجية والمنظومات المعلوماتية أوعية زاخرة بمقومات الحداثة ودعامات تقوية المواطنة في التعبيرات السلوكية للمواطن. المغرب يحتاج إلى ناخبين من نوع جديد لخلق المنطق التنموي المطلوب لإنتاج النخب على أساس الكفاءة والنجاعة والشفافية.
علينا اليوم، كمغاربة، أن نصرخ بكل ما نملك من قوة في فضاء الغربان التي تنعق فوق رؤوسنا متوقعين نهايتنا.
علينا أن نردد على مسامعهم: نحن ذوات لا تحتضر، عزائمنا تتجدد، فلا تنتظرون رحيلنا عن تراب وطننا أو التفريط ولو بشبر من ترابه. الآفاق المغربية واعدة وعلى المغاربة طلب الكلمة.