
طلعتهم كانت تدخل الفرحة في قلوب جيلي و جيل من قبلي و جيل من بعدي، إنهم سعاة البريد كانوا رجالا يحملون حقائب على أكتافهم بداخلها رسائل بألوان وطوابع بريدية من جنسيات مختلفة، كل منتظر و منتظرة يترقبان بشوق رسالة تحمل خبرا سارا أو حوالة مالية أو فاتورة يجب أداؤها.
نعم كانت لنا مراسلات صداقة مع أجنبيات و كانت موضة ذاك الزمان، منا من كان حلمه زواج من شقراء تجعله يغادر بلده نحو جنة الخلد كما كان الاعتقاد سائدا آنذاك، و منا من كانت أمنيته تطوير لغة أجنبية و معرفة عادات و تقاليد الغير يضاف اليها شراء جريدة فرنسية بها ملحق يكتب فيه الشباب مقالات ” لوپنيون دي جون ” l opinion des jeunes و أنا كنت من هذا الصنف.
كانت لي صديقة برتغالية و كنا نتبادل الرسائل و كانت والدتي الحاجة تعينني على هذه المهمة، و مع مرور الايام تحقق لبعض من أصدقائي ما كانوا يصبون اليه هجرة إلى سويسرا أو فرنسا أو بريطانيا … و كونوا أسرا هناك و لا زالوا يعيشون بها إلى الآن.
منهم من نجح منذ زواجه الأول و منهم من عاود الزواج ثانية بأجنبية و منهم من عاد و اختار بنت البلد لتعيش معه هناك، فساعي البريد كان محبوبا بما يحمل معه من أخبار سارة و كانت لي جارة تنتظر حوالة بمبلغ زهيد تأتيها كل شهر لتفرج بها كربتها معاش من فرنسا يكاد يسد رمقها و جوعتها.
و أخرى تنتظر حوالة عبارة عن معاش زوجها المتوفى بمبلغ زهيد كل ثلاثة أشهر ، و لا أنسى بناتا لم يكن يجدن من يقرأ لهن تلك الرسائل كما كان حال بعض الرجال و النساء الذين ينتظرون رسائل تأتيهم من أولادهم يقيمون خارج الوطن ، فيتولى هذه المهمة شباب من الذكور و الإناث فيقوموا بهذا الواجب الذي يذر عليهم ذكورا و اناثا دعوات و دراهم و هدايا في عطلة الصيف، و ساعي البريد كذلك كان له حظ من الدراهم و الهدايا و الدعوات و قبل على الجبين و الخد لما يجلبه من فرح.
و لكن مع مرور السنين و دخول دول العالم لعالم الرقمنة خبا و أفل نجم ساعي البريد الذي أصبح يشتغل جنبا إلى جنب مع إمرأة تقوم بنفس المهمة فأصبح دورهما جلب فواتير ضرائب مختلفة و كهرباء وماء و إنترنيت و هاتف.
و لا نكاد نراهم و لم تعد لنا رغبة في اللقاء بهم و لم نعد نعرف من هم كما كان الحال من قبل ، لان الهاتف و الحاسوب و كل الوسائل الرقمية الجديدة قامت بالدور في أقل مدة زمنية و هي رمشة عين عوض الأيام و الأسابيع و الشهور و السنوات.
شكرا لك سيدي ساعي البريد على ما كنت تفرحنا به مع كل إطلالة، و كم كانت سعادتنا أكبر و أنت تقصد بيتنا بابتسامة على محياك نفهم من خلالها فرج و خبر سار و نحن من كنا نشاركك أسرارنا و مغامراتنا نعم شكرا لك الف مرة عشنا معك و عشت معنا زمنا جميلا افتقدناه فأصبح مجر ذكرى و لكنها ذكرى و ذكريات جميلة.