تنبيه مهم
أنا لا أناقش هنا فكرة القضاء والقدر من الناحية العقدية بل من ناحيتي الفكر والتاريخ.
تعريف القضاء والقدر لغة
القضاء هو: الحسم والقطع والانتهاء والكف والفراغ من أمر ما يتعلق بالأشياء والأحياء.
القدر هو: النهاية المحتومة لسيرورة القضاء في الأشياء والأحياء.
التعريف في الاصطلاح
القضاء هو القانون أو القوانين المتحركة في الوجود لطبيعة سيرورة تكوين الأشياء والأحياء بمقدار الزمن أو إعمال الزمن فيها؛ ومثالها حركة الحياة ونشاطها من تكوبن وإيجاد وخلافه وعلى قمتها الإنسان وطبيعة دَأْبِه فيها.
القدر هو القانون أو القوانين الثابتة في الوجود من أشياء وأحياء تم الفراغ منها بعامل الزمن ثم كانت على شكل من الأشكال وصورة من الصور المادية منها والحسية ؛ ومثالها الخلق بلا استثناء وإيجاده على هيئته دون تغيير أو تبديل أو تدخل أو حذف أو إلغاء أو خلافه كالليل والنهار والبشر من أقدار الله وكلماته في الوجود.
مفهوم القضاء والقدر
نشأ مفهوم القضاء والقدر في نهاية القرن الأول وأوائل القرن الثاني من الإخراج النبوي الشريف في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ( 61 خ – 101 خ / 681 م – 720 م ) وأول من أذاعه وتبنَّاه هم المعتزلة وعلى رأسهم غيلان القدري ( منشأ القدرية )، وواصل بن عطاء الغزَّال؛ ( ولد سنة ثمانين خ وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة خ الموافق لسنة 748 م.
مع نهاية الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ وله كتاب “التوبة” و “معاني القرآن” و “أصناف المرجئة” وغيره، هو وإبراهيم بن سيَّار النظَّام توفي سنة 231 خ في عمر السادسة والثلاثين تلميذ أبو هذيل، صاحب الطفرة والجزيئات والكمون؛ من مؤسسي فكر المعتزلة؛ وتلميذهم الجاحظ) والجهم بن صفوان (قُتِلَ سنة 128 خ، وعرفت فكرته وطائفته بالجهمية.
وأساتذتهم مثل: معبد الجهني الذي قتل سنة 80 خ على يد الخليفة عبد الملك بن مروان، وغيلان الدمشقي الذي قتل على يد هشام بن عبد الملك سنة 106 خ، وعمرو المقصوص، الذي دفن حيَّاً وقيل قُتِلَ في زمن معاوية بن يزيد بن معاوية) راجع المصدر أعلاه ص : 96 – 99، ونطق بها الإمام الحسن البصري حين قال: (اعتزلنا واصل) ومنها سُمِّيَتْ المعتزلة كفرقة بــ “المعتزلة” من الاعتزال، ثم لبست ثوباً فقهياً ودينياً وسياسياً فيما بعد؛ وهم الذين قالوا بخلق القرآن (أول من قال بذلك: الجعد بن دَرْهم، قُتِل سنة 124 خ الموافق لسنة 742 م في أيَّام خلافة هشام بن عبد الملك.
قتله والي الكوفة خالد بن عبد الله القسري) والجبر والاختيار وأتوا بعلم الكلام وخلق القرآن وهلم جرا ، انظر كتاب الأستاذ / محمد فقيري “قطوف، ثمرات من شجرة العمر” إصدار دار الريم بالخرطوم سنة 2024، ص 96، وتاريخ بن خلدون وسير أعلام النبلاء للإمام الذهبي وكذلك البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي.
قلت: لا يوجد ما يسمى بـــ ” القضاء والقدر ” لفظاً محضاً صرفاً في القرآن الكريم؛ وكل الآيات القرآنية – وهي تتجاوز العشرين آية – التي ذكرت لفظتي القضاء والقدر لا علاقة دلالية دينية لها كما سُوِّغ منذ القرن الثالث الإخراجي كمصطلح فقهي تشريعي ديني وكل ما ورد لم يأت بذات اللفظتين المحضتين الصرفيتين يقصدان ما قصده الأوائل وثارت فيها الثوائر وأصبحت مُلاكة لدى الألسن ونهجاً فكرياً سواء كان هذا النهج معتزلي أو فلسفي أو أثري أو تاريخي أو خلافه.
ومن ثم صارت معتقداً مقدساً لا يقبل الطعن أو التشكيك أو التحليل أو المغايرة ولا يعتريه الفكر بالمناقشة ومن هنا كان لا بد من المراجعة التاريخية والمعالجة الفكرية لقضيتي القضاء والقدر.
يمكن القول: إنَّ القضاء والقدر هما نقطة التقاء أسباب السماء بأسباب الأرض فيما هو ثابت من قوانين وجودية للكون؛ وفيما هو متحرك من قوانين وجودية للكون.
يدخل أو أُدخل في هذه القضية تعقيداً وتفسيراً أو محاولة للتفسير تسوق للتعقيد الذهني ارتباطاً فلسفياً أو فكرياً كقضايا الجبر والاختيار بالنسبة للإنسان وارتباط كل ذلك بالعبادة والطاعة لله أو المعصية ومن ثم كنتيجة طبيعية تلقائية لهذه الدائرة دخلت قضية الحساب والعقاب في الدنيا والآخرة.
وأقحمت فلسفة القضية برمتها في مفهوم العدالة الإلهية من عدمها – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – وتفرَّقت الناس فيها أيدي سبأ! والحق يُقال: إنَّ هذه القضايا جاء تعقيدها وزادها تعقيداً ربطها بالدين الإسلامي أو بالمعتقد المحمدي واخذوا دعماً لآرائهم الفكرية دلائلهم من القرآن مما هو معروف ثم ساقوا الأمر اذعاناً في قضايا السياسة والحكم باسم طاعة الله ورسوله من طاعة ولي الأمر وهو الحاكم المطلق بأمر الله وهذا خطأ!.
إنَّما الحق في إخراجها من قالبها الديني وكل ما استدلوا به من آيات قرآنية لا علاقة لها لا بالحكم والسياسة وشؤون الدولة والرعية ولا علاقة لها أيضاً بالمعتقد الديني لا من قريب ولا من بعيد؛ كذلك؛ لا علاقة لها بطاعة الله ورسوله وإنما هي أدوات استعملت لقهر الرعية وسوقهم نحو الاذلال والاستكانة من طريق الدين واستغلاله وسوء توظيفه ليسهل حكمهم وعدم خروجهم على الحاكم الظالم الجائر (راجع طائفة “المرجئة” وأقوالهم)؛ وأنت ترى أيها القارئ الكريم مدى استغلال الناس والعباد والضعفاء بالذَّات للدين ليخدم السياسة والحاكم في مسألة البعد الروحي أو قل: تقمُّص دور السلطة الروحية وخلق قوانين مصاحبة لتتماشى مع نظام الدولة الحاكمة.
الحق يُقال: إنَّ اختلاق فكرتي القضاء والقدر وما صاحبهما من قضايا ذات أبعاد متعددة ومتنوعة ليس محلها الدين ولا المتاجرة به ولا السياسة وأنظمة الحكم العالمية ومحلها هو العقل والنهج القويم في ابرازها من عدمه وطالما – أقلَّاها بالنسبة لي – لا وجود لها بين دفتي المصحف الشريف فهي ليست ملزمة بتاتاً بكل تبعاتها الفقهية والفكرية والعقدية والدينية وما أشبه للعقل الإنساني العالمي الحاضر والمستقبل.
إنَّ ما زاد من تعقيد فهم قوانين الوجود الثابت منها والمتحرك وقوانين ما وراء الطبيعة / الغيب أو الغيبيات – الميتافيزيقية – هو العدل الإلهي والظلم الإلهي وهي من أساسيات فكر المعتزلة الخمس – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – وكذلك قضية الجبر والاختيار للإنسان ومن ثم؛ الحساب والعقاب؛ وينسون تماماً تعلق هذه القضايا بقضايا القوانين الثابتة والمتحركة للوجود كقوانين إلهية غير خاضعة للجدل؛ بمعنى خضوع الوجود تحت مظلة القوانين الثابتة (إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر) سورة القمر.
كالرزق والموت والحساب والعقاب والأمراض والمناخ وخلق السموات والأرض وهلم جرا؛ وخضوع الجبر والاختيار والطاعة والمعصية تحت مظلة القوانين المتحركة (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) سورة الزلزلة؛ كالحريات والعبوديات والأعمال والأفعال وما يجري مجراها من نشاط وحركة الناس ؛ وعن هذا وذاك يدخل عامل الزمن في كليهما كسيرورة القضاء نحو تمامه في القدر وهي ذاتها نقطة التقاء أسباب السماء بأسباب الأرض لنفاذ أمر الله في الوجود.
بمعنى ثالث؛ الطاعة والمعصية؛ الجبر والاختيار التسيير والتخيير الحساب والعقاب وما إلى ذلك كلها مجتمعة هي من أقدار الله في الخلق الثابت والوجود المتحرك وعلى قمته البشر من ناحية القوانين ولنا أن نأخذ مثالاً على ذلك:
الحساب والعقاب؛ هما من الأقدار التي قدرهما الله في الوجود كقوانين ثابتة تتحرك بعامل الزمن وأنا هنا أخص بالذكر الإنسان فإذا تحركت في حركة النشاط البشري فإنَّ البشر يحاسبون أنفسهم بأنفسهم ويعاقبون أنفسهم بأنفسهم بالقوانين الدستورية العدلية والوضعية المنظمة لحركة حياتهم ومنها العرف والعادة والتقليد وما أشبه.
فما كان لله منها فهو لله يختص قضاء وقدراً فيما يفوق قدرتهم بالحساب والعقاب لاحقاً مثل قضية قتل خمسة مليون يهودي في الحرب العالمية الثانية بيد هتلر تحقيقاً للعدل المحض الصرف ؛ وما كان لهم فيها من قضاء وقدرة حاسبوا وعاقبوا أنفسهم بأنفسهم مثل القضايا التي ينظمها القانون العام الدستوري في حياتهم الجنائي منها والمدني أو العرفي وخلافه تحقيقاً للعدل المحض الصرف فهي تتراوح ما بين القوانين الوجودية الثابتة والقوانين الوجودية المتحركة بعامل الزمن.
وأقصد بمتحركة بعامل الزمن هو التطوير للبشر من ناحية الفكر للأحياء – التنمية الاجتماعية – في إعمار الإنسان لنفسه؛ والأشياء في إعماره لأرضه – التنمية الحضارية – أينما كان بلا استثناء.
أمر مهم في هذا الباب؛ هو الحكمة والعلَّة الإلهية من خلق القوانين الثابتة والمتحركة، نحن البشر لا نخلوا من قصور في الفكر بحال من الأحوال بكل ما نعرف وأوتينا من قدرة الفكر على الخلق والابتكار والصناعة في معرفة الحكمة والعلَّة الإلهية وراء ما لا نفهمه ونعيه في تبدي سلسلتي القضاء والقدر.
فبالتالي نرمي القصور على الله – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – في حين الطبيعي أن نعترف نحن بقصورنا الفكري عن شأو وشأن هذه القوانين؛ والربط بين المعرفة والجهل هو العلم بما يدور حولنا من حيوات وأشياء؛ والعلم النهائي المطلق هو لله لا للبشر.
( يتبع )