آراءسياسة

واشنطن – الإمارات.. اللحظة الصعبة

لم يعد شركاء الولايات المتحدة في المنطقة يعتبرون واشنطن حليفاً حقيقياً موثوقاً بالمعنى التقليدي الذي كان متعارفاً عليه في السابق..

بدت الولايات المتحدة وكأنّها تصطنع “إشكالاً” مع دولة الإمارات العربية المتحدة. تحدّثت صحيفة “بوليتيكو” الأميركية في 14 شباط (فبراير) الجاري، عن تقييد أبو ظبي استخدام الولايات المتحدة للمنشآت العسكرية الموجودة على الأراضي الإماراتية خلال شنّ غارات جوية تستهدف وكلاء إيران.

يكشف الخبر تسريباً أميركياً (من خلال 4 مصادر) تختلط أهدافه بين العتب والشكوى والغضب. وبغضّ النظر عن ملابسات الحدث، فإنّ الأمر يكشف مجدداً الطبيعة الجديدة لعلاقة دول الخليج عامة والسعودية والإمارات خاصة مع الإدارة في واشنطن، وإدارة الرئيس جو بايدن بالذات.

لم يعد شركاء الولايات المتحدة في المنطقة يعتبرون واشنطن حليفاً حقيقياً موثوقاً بالمعنى التقليدي الذي كان متعارفاً عليه في السابق. تغيّرت أميركا نعم. تغيّر العالم أيضاً. وتغيّرت الإمارات والمجموعة الخليجية أيضاً.

ولئن طوّرت الإمارات مقاربة العلاقة مع الولايات المتحدة لأسباب ومعطيات وضرورات إماراتية بحتة، فإنّ جانباً من هذا التصويب لتلك العلاقة ينهل ديناميته من البلادةِ التي أصابت السياسة الأميركية في الشرق، وارتخاء التزاماتها واحترام شراكاتها في الخليج. أضف إلى ذلك، عدم التنبّه إلى جدّية هواجس الأمن والاقتصاد والمستقبل التي تحرّك صاحب القرار في الإمارات والمنطقة.

في الإمارات من يعتبر أنّ علامات خطيرة ظهرت في واشنطن منذ ولايتيّ الرئيس الديموقراطي باراك أوباما في البيت الأبيض (2009-2017) أيقظت أهل المنطقة على انقلاب خطير في فهم الولايات المتحدة لأمن الخليج.

تعثّرت واشنطن باعتقادها أنّ العالم يستغني نهائياً عن الطاقة الأحفورية وذاهب بلا عودة إلى الطاقة البديلة، ما يعني انخفاض مستوى منطقة الخليج في سلّم الأولويات الاستراتيجية. وفيما اعتبرت واشنطن، وفق هذه الخطيئة، أنّ دول الخليج هي خزان نفط، فإنّ الإمارات وأهل المنطقة ردّوا، وأحياناً بجلافة وصلابة وتحدٍ، بأنّهم أصحاب حضارة وثقافة ومصالح، ويمتلكون طموحات كبرى بات العالم بأسره يدور هذه الأيام حول ديناميتها.

لم يغفر الخليجيون ذهاب واشنطن إلى إبرام اتفاق فيينا عام 2015 مع إيران بشأن برنامجها النووي من دون أخذ مصالح الخليجيين بعين الاعتبار.

لفّقت إدارة أوباما صفقة لمداراة برنامج نووي يعمل على بعد آلاف الكيلومترات من الولايات المتحدة، فيما يقع في قلب المنطقة ويطال أمن الخليجيين مباشرة في الحاضر والمستقبل.

لم يغفروا لواشنطن تعامل أوباما مع دول الخليج بصفتها هامشاً لمتن أميركي – إيراني كان قيد التشكّل. حينها نصح الرئيس الأميركي الخليجيين، المفترض أنّهم حلفاء تاريخيون استراتيجيون للولايات المتحدة، بموقف خبيث قال فيه بما معناه: “تدبّروا أمركم وتشاركوا المنطقة مع إيران”.

تغيّرت الإمارات. بات لهذه الدولة سياسة خارجية مقدامة تنسج العلاقات مع مشرق الأرض ومغربها، من دون أن يمسّ الأمر علاقاتها القديمة مع الولايات المتحدة. تمدّدت علاقاتها باتجاه روسيا وكوريا الجنوبية والهند واليابان والصين وغيرها من دول العالم، وباتت ركناً من مجموعة “بريكس”.

بدا التغيّر أيضاً واضحاً في ديناميات السعودية مع العالم بما كشف بزوغ جناحين، سعودي إماراتي، لصقر سياسي خليجي يحمل كل المنطقة إلى آفاق غير مسبوقة.

وإذا ما سعت أبو ظبي لتعظيم رؤاها في الأمن والمال والاقتصاد والثقافة، فإنّها استندت، منذ تحمّل الشيخ محمد بن زايد (وقبل أن يصبح رئيساً للبلاد) مسؤولية النهوض بالبلاد ونقلها إلى مصاف الأمم المتقدّمة الطموحة، على إيمان بقوة الإمارات وكفاءاتها في أن تكون رقماً صعباً يستطيع عند الحاجة أن يقول “لا” لمشرق الأرض ومغاربها.

لم تعلّق الإمارات رسمياً على مقال “بوليتيكو”، لكنها، وفق معلومات سردها المدير العام لقناة “سكاي نيوز عربية” الزميل نديم قطيش في مقابلة أجرتها القناة معه، كانت فعلاً أبلغت واشنطن قبل عامين “أنّها غير معنية بأن تستخدم أراضيها لضرب ميليشيات موالية لإيران أو لضرب إيران”.

ولا شك في أنّ أبوظبي فهمت أنّ مقال “بوليتيكو” رسالة مقصودة في توقيتها، موجّهة من واشنطن، تهدف إلى تعويم ضيّق في علاقة البلدين جرت دائماً مواراته. بدا أيضاً أنّ للإمارات مصلحة في أن يظهر هذا الخلاف إلى العلن، وأنّ ذلك يجب أن يصبح من عاديات الأمور وطبائع التباين في الأمزجة وعقارب بوصلة البلدين.

انتهجت الإمارات منذ سنوات تحوّلاً جريئاً، وسبّاقاً، في تصفير المشاكل مع دول مثل إيران وتركيا، ومهّدت بذلك الطريق لتحوّل إقليمي انتهجته دول أخرى في العلاقة مع هذه البلدان. وأعادت الإمارات التموضع على نحو واضح حاسم وحازم في عدد من ملفات المنطقة المرتبطة مباشرة بأمن الإمارات الاستراتيجي. وبدا أنّ في تلك الجرأة ما يربك حسابات واشنطن ورتابتها.

وإذا ما كان في هذا التحوّل نظرة استراتيجية طويلة الأمد، فإنّ هذا يعني أنّ أجندة أبو ظبي ستختلف عن تلك الأميركية التي بات من الصعب التنبؤ بها واعتبارها مستقرّة طويلة الأمد وباتت متقلّبة حائرة وفق مزاج ساكن البيت الأبيض.

تخلّفت واشنطن عن القيام بواجباتها كحليف عندما تعرّضت الإمارات لأخطار مباشرة، حين استهدف الحوثيون أبو ظبي أوائل عام 2022. كما تخلّفت بالمناسبة عن التحرّك قبل ذلك إثر استهداف منشآت شركة “أرامكو” في السعودية في أيلول (سبتمبر) 2019.

أظهرت الإمارات موقفاً غاضباً. اضطر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن يلحق بالشيخ محمد بن زايد الذي كان في زيارة للمغرب في آذار (مارس) 2022، في محاولة للاعتذار عن خطيئة لم تُغتفر.

فهمت إدارة بايدن لاحقاً أنّ الإمارات والخليج برمّته قد تغيّرا. لم يقفا إلى جانبها في الموقف من حرب أوكرانيا، ولم يتسامحا مع تدخّلها في قرار سوق النفط، ولم يكترثا لقلقها من علاقات أمن وتكنولوجيا واقتصاد وسياسة تنسجها الإمارات وجيرانها مع “الشرق” بكل أبعاده.

لا تقوم رؤية الإمارات على ردّ فعل انفعالي بل على قراءة لعالم هذا اليوم تتراكم داخله شكوك بالولايات المتحدة وغياب الثقة بسياساتها. في نيسان (أبريل) 2022، قال المستشار الرئاسي أنور قرقاش إنّ “الهيمنة الغربية على النظام الدولي تعيش أيامها الأخيرة”.

وأضاف في محاضرة ألقاها في “مجلس محمد بن زايد” أنّ ظهور القوة الاقتصادية والتكنولوجيا من آسيا ممثلة بالصين واليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا “سيغيّر الميزان الذي كان مائلاً للغرب، بحيث أنّ هذا الاقتصاد أصبح أقل غربية”.

وقبل أشهر عدة نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي، حين سُئلت عن الشكوك الإماراتية قولها: “أعتقد أنّها لحظة صعبة”.

ملفات نزاع متراكمة هي بين الإمارات والولايات المتحدة. ليس أولها صفقة مقاتلات الـ F35 ولا آخرها السياسة الخبيثة المتذبذبة بشأن اليمن. وفي ثنايا كل الملفات هاجس الأمن الاستراتيجي للإمارات الذي لا يتحمّل مزاجية وتقلّباً في سلوك الإدارات في واشنطن. وللإمارات الحقّ الكامل في الحرص على سيادتها واستقلال قرارها في تقرير حراك المقاتلات الأميركية المنطلقة من أراضيها.

وإذا ما عاد ذلك إلى حرص الإمارات أيضاً على مصالحها، فإنّ لواشنطن أن تداري مصالحها كما تشاء، شرط الاحترام الكامل لكينونة الإماراتيين وإرادتهم ورؤاهم في فهم العالم والتعامل مع تحوّلاته. وإذا ما كان البيت الأبيض مسؤولاً عن مصالح الولايات المتحدة، فإنّ في “عتب بوليتيكو” ما يكشف نزقاً أميركياً في التعامل مع صاحب قرار في الإمارات، يضع مصالح بلاده أولاً وأخيراً فوق كل اعتبار.. ولو كره الكارهون.

https://anbaaexpress.ma/aoz8p

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى