جدل يشبه حالة رعب أصاب الأوساط الأوروبية جراء تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 10 الشهر الجاري بشأن مسألة علاقة بلاده مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) المُنشأ عام 1949. لا شيء جديداً في المنطق العدائي الذي ينتهجه المرشح الجمهوري المفترض للرئاسة الأميركية، لكن الظروف الجيوستراتيجية الراهنة لا تسمح بتمرير نزق شعبوي يُستثمر لصالح الحملة الانتخابية ولوازمها.
يروي ترامب في مهرجان انتخابي في كارولينا الجنوبية أنه حين كان رئيساً ألقى خطاباً في عدد من زعماء الدول الأوروبية وهدد بعدم تقديم الحماية لأي دولة لا تدفع حصة داخل حلف الناتو تصل إلى 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي (11 عضوا فقط من المفترض أنهم تمكنوا من تحقيق هذه النسبة عام 2023). أضاف أن زعيم دولة كبرى سأله عما إذا كانت الولايات المتحدة لن تدافع عن بلده إذا ما تعرّض لاعتداء روسي في حال تعذّر إيفاء مستحقاته. فكان جواب ترامب أنه لن يدعم هذا البلد لا بل سيساعد الروس على فعل ما يريدون فعله.
يتناقض كلام ترامب مع المادة الخامسة من “دستور” الناتو التي تنصّ على أن أي اعتداء على إحدى دول الحلف (31 دولة) هو اعتداء على دول الحلف. وليس جديداً كلام ترامب، وهو في توجّهه إلى ناخبيه يدغدغ لديهم مشاعر الحرص على أموالهم من تبذير مزعوم تمارسه واشنطن بسبب التزاماتها خارج حدود الولايات المتحدة. وإذا ما مارس ترامب هذه التمارين إبان عهده الرئاسي، فإن الأمر، على ما سببه من ضيق وتبرّم لدى الحلفاء آنذاك، جرى قبل أن يصبح الخطر الروسي على أوروبا واقعاً وحقيقة منذ أن شنّت موسكو بقيادة فلاديمير بوتين حربها ضد أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022.
تعرّضت المنظومة الغربية في عهد ترامب إلى أزمة وجودية داخلية بسبب المنحى الانعزالي الذي ذهب الرئيس الجمهوري إليه في النأي بنفسه عن أوروبا والناتو.
فرض على أوروبا تعرفات جمركية كالتي تفرضها واشنطن على الخصوم. لمّح بالانسحاب من الحلف الأطلسي. دعم بريطانيا في مسار الانشقاق عن الاتحاد الأوروبي.
رفض مصافحة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل وتوترت علاقاته مع زعيمي فرنسا وكندا. انسحب من منظمة اليونيسكو وراح يهدد حتى بالانسحاب من الأمم المتحدة.
بالمقابل أظهر ترامب إعجاباً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتباهى بصداقته مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. وقال يوماً أنه يثقّ بما يقوله بوتين أكثر من ثقته بأجهزة المخابرات في الولايات المتحدة. عقد اجتماعا مع الزعيم الروسي في هلسنكي في تموز (يوليو) 2018 لم يحضره أي مستشار أو موظف أميركي وبقي مضمون الاجتماع سريّاً لم تعرف أميركا ومؤسساتها السياسية والأمنية شيئاً عما دار بين الرجلين.
حين انتخب الديمقراطي جو بايدن رئيساً خلفاً لترامب، تنفست المنظومة الغربية الصعداء. سارع الرئيس الجديد إلى ترميم ما تصدّع داخل الحلف الغربي، فعقد في حزيران (يونيو) 2021 في كورنوال في بريطانيا قمّة مع مجموعة الدول السبع G7 وانتقل بعدها إلى بروكسل لعقد قمّتين مع زعماء دول الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.
أعاد الرجل تأكيد التزامات الولايات المتحدة مع الحلفاء، وأعاد بذلك تثبيت استمرار زعامة بلده للمنظومة الغربية.
وفيما كان لسان حال سلفه يدافع عن خيار النأي بالنفس عن الحلفاء، طمأن بايدن القمم الثلاث بشعاره الشهير America is back.
يدعو كبار خبراء السياسة والشؤون الجيوسياسية في أوروبا إلى أخذ تهديدات ترامب الجديدة على محمل الجد.
فحظوظ الرجل قوية تكاد تكون حتمية في حمله إلى البيت الأبيض من جديد. بعضهم يدعو أوروبا إلى الاستفاقة على هذا “القدر” والاستعداد لاحتمال بات وشيكا في تخلي الولايات المتحدة عن مظلّة دفاع تقليدية ونووية نصبتها فوق أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويرى هؤلاء أن ترامب لا يعبّر فقط عن مزاج شعبوي انتخابي، بل عن تيار انعزالي يتنامى داخل الولايات المتحدة يدعو إلى العودة بالبلاد إلى ما كانت عليه قبل الهجوم الياباني على بيرل هاربر عام 1941 والذي أخرج أميركا من تقاليدها بعدم التدخل في شؤون العالم.
وتكاد باريس تشمت ببلدان في المجموعة الأوروبية لم تستمع إلى نداءات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإقامة استراتيجية دفاعية أوروبية تكون مستقلة ولديها اكتفاء ذاتي لا يكون مرتهنا لمزاج أي رئيس في البيت الأبيض. يروي مراقبون فرنسيون في هذا الشأن أن دولا مثل ألمانيا وبعض دول أوروبا الشرقية طلبوا من فرنسا الكفّ عن الترويج لأفكار من هذا النوع لما يمكن أن تفعّله من أفكار في واشنطن تدعم سحب الغطاء الدفاعي الأميركي عن القارة العجوز.
وإذا ما تحتمي دول مثل فرنسا وبريطانيا بما تملكه من ردع نووي، غير أن دولا أخرى في أوروبا، لا سيما ألمانيا وبولندا وفنلندا ودول البلطيق والدول المتاخمة لأوكرانيا، لا تجد رادعا ضد الخطر الروسي إلا التزام أميركي استراتيجي سخيّ وواضح في هذا الصدد.
لا يستطع ترامب سحب بلاده من الناتو. تحوّط الكونغرس لاحتمال من هذا نوّع وصادق في كانون الأول (ديسمبر) الماضي على تشريع يمنع أي رئيس من سحب الولايات المتحدة من الحلف دون موافقة مجلس الشيوخ أو قانون صادر عن الكونغرس بغرفتيه. وإذا ما تربك التصريحات السياسية مزاج البورصات المالية وسلوكها، فإن تصريحات ترامب تتداعى مباشرة على مستقبل الصراع في أوكرانيا.
تشعر كييف هذه الأيام بضيق من تعذّر تمرير دعم أميركي موعود يصل إلى 60 مليار دولار لدى الكونغرس رغم مصادقة الاتحاد الأوروبي على مغلف من 50 مليار يورو لأوكرانيا للسنوات الأربع المقبلة. صحيح أن العراقيل لا ترتبط بعداء الجمهوريين ضد أوكرانيا بل بارتباط الصفقة بقوانين لمكافحة الهجرة لم يجدها الجمهوريون كافية وأطاح بها المرشح ترامب، غير أن مواقف الأخير تشي باستعداده رئيسا لمعاندة السردية الأوكرانية والقبول بتلك الروسية في فرض أمر واقع تقبل به واشنطن.
كان بوتين لمّح إلى وصفة لإنهاء الحرب تماشي أهواء ترامب. قال الزعيم الروسي للصحافي الأميركي المثير للجدل (المعبّر عن ترامب والترامبية) تاكر كارلسون، أن الحرب في أوكرانيا ستتوقف بعد أسابيع من توقف واشنطن عن إمداد أوكرانيا بالسلاح. وقد يكون احتمال ترامب رئيسا خبراً سيئا للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي. لكن الأمر يعيد إنعاش الرؤية البوتينية للعالم ويفرض من خلال أوكرانيا خريطة تعيد رسم المشهد الدولي وموازين القوى.
صحيح أن ترامب ما زال يعتبر الصين عدواً، غير أن نكسة محتملة للأوكرانيين ستضعف حتماً موقع الولايات المتحدة في الصراع مع الصين.
هنا فقط يعوّل الأوروبيون على أن يتبدّد كلام ترامب الانتخابي ويصبح سراباً حين تأتيه تقارير البنتاغون ومؤسسات الأمن القومي عن ارتباط مآلات الصراع في أوكرانيا بخطط أميركا لمواجهة أكبر تحدٍ مصدره الصين تواجهه البلاد وسيحدد مستقبل أميركا والأميركيين في العالم.
في أوروبا من يعتبر أن الديمقراطية الأميركية مريضة وأن عجز البلاد عن إيجاد مرشحين تقل أعمارهم عن 80 عاما هو من أعراض هذه العلّة. سخر بالمقابل منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من مواقف ترامب. قال: “بكل جديّة، لا يمكن للناتو أن يكون حلفا عسكريا حسب الطلب يعتمد على مزاج رئيس الولايات المتحدة كل يوم”.
يبدو هنا المسؤول الأوروبي غير مؤمن بـ “دعابات” ترامب وأكثر ثقّة بقدرة الواقع على فرض قواعده على سلوك أي ساكن في البيت الأبيض.