
قبل أربعة أشهر تشرَّفت بقراءة العمل الأدبي الروائي أخت البداية للأستاذ الدكتور سامي حامد طيب الأسماء، بعد أن بعث بها إليَّ مشكوراً للإطِّلاع عليها ودراستها، ووجدتها أول الأمر لا تصلح للنشر ولم أقدر على مواصلة القراءة والتمحيص والنقد لما فيها من مفارقات تحتاج إلى ضبط كبير ومراجعة قبل النشر فمزقت ما كنت قد علقت عليه في خمس ورقات واعتذرت للكاتب عن المواصلة، ذلك لأنَّ أي عمل أدبي غير مُراجع المراجعة المتأنية قبل النشر.
فإنَّه هالك لا محالة وسرعان ما ينساه القارئ ولكن العمل الذي يُقَدَّر له الخلود هو ذلك العمل الذي يخاطب العقل والشعور لحياة الناس جميعها ويضعه كمبضع المشرط من الجراحة والتشخيص موضع الطبيب الماهر لعلاج قضية مجتمعية ملحة تتشابه فيما بينها وبين كثير من حيوات الناس خارج دائرة العقل الجمعي العربي وبعد ذلك منهم من يفلح ومنهم من يفشل والنجاح والشُهرة من بعد حظوظ كما قال بذلك القدماء.
في هذه الكلمة المختصرة وبعد مضي أربعة أشهر راجعتها كم جديد بعد أن خاطبني كاتبها بأنَّه قد راجع ما يراه حقَّاً للمراجعة وأعدت النظر فيها من جديد فإذا هي حُلَّة جيدة في أبهى صورها للناظر ولا ينكرها إلَّا مكابر.
ولا يعني ذلك خلوها من النقص فالكمال غاية لا تدرك ولكنها على وجه العموم أرجو أن تكون من الخوالد في باب الرواية السوداني والعربية والعالمية إن شاء الله.
هذا ! رواية “أخت البداية” طُبعت في دار صفحات للنشر والتوزيع طبعة أولى سنة 2023 بالقاهرة ويمكن تلخيصها للقارئ بأنَّها [حياة إنسان ملفَّح بشقاء الدنيا] لما قد يوجد مثيلاتها في حيوات الناس جميعها والفرق في الأسلوب وتناول المادة من كاتب لآخر، لذا سمَّاها صاحبها “أخت البداية” وأضفت أنا من عندي “البداية تشبه النهاية ولا تشبهها” كما يقول العارفون بالله عند المتصوفة والله أعلم.
تبدأ الرواية بجريمة قتل دفاعاً عن الشرف والعرض، لكنها ليست الموضوع الأساس من النص، وترى الكاتب يسترسل في نسج تشويقي للقارئ ليوهمه بأنَّها الموضوع الأساس من النص وسرعان ما يتبدَّى عدم وجود جريمة أصلاً فينتقل بك بنسج آخر هو الخلط بين الواقعية والخيالية وهذه السِمة هي التي رفعت قيمة الكتاب عندي لما فيها من واقعية معلومات حقَّة في النشاط الإنساني بعامَّة يتمحور في بطلها عبد الجليل / لا كما يريدها أو يراها الكاتب نفسه من أنَّ بطلها هو كمال فذاك بعيد بعيد جداً / بتلبسه جريمة توهما هو أول الناس ويهرب لمصر من مواجهتها أمام القانون وأمام المجتمع وأسرته بالتحديد والتي بطلتها زوجته صفيه وما يعتريهم من أسباب الحياة بين شد وجذب حتى يصل بنا لنهايتها من عودته مجدداً للسودان في أسلوب رشيق مقبول بلا شك.
مع الدكتورة أسماء الحسيني والمؤلف
تحول النص من جريمة قتل إلى سرد تحليلي وتفصيلي لحياته الشخصية مما باعد بين موضوعية النص وبين القارئ حيث يفترض به سرد تفاصيل الجريمة لا تفاصيل حياته الشخصية ما لم يكن تفاصيل حياة بطل الرواية هي وحدة الموضوع التي من أجلها كتب الكاتب ما كتب.
كنت أتساءل طيلة قراءتي للنص أين أجد الربط بين فعل الجريمة وحيثياتها فلم أجدها، ولكني وجدت الربط بين تفاصيل حياة القاتل مع بعضها البعض في كثير الشبه بينه وبين حياة السواد الأعظم من الناس، وهذا جيد بطبيعة الحال لكن لا تفيد القارئ من باب الإضافة للرواية من حيث هي أدب كتابي خلا من التشويق والإثارة.
يعتمد الكاتب على محورين أساسيين هما: توليد المعلومة المستمدَّة من الواقع توليداً فاحشاً من وجه نظر أولى لمزيد من الإسهاب والتطويل لروح النص، وهذا لا يعيب النص بالتأكيد من وجه نظر ثانية، اقرأ معي هذه الفقرة: [استبدَّت به الأشواق رعنى] والتي أخذها أخذاً مباشراً وقوياً من الشاعر السوداني إدريس جمَّاع: “عصفت به الأشواق وهنا” في قصيدته التي يغنيها الأستاذ المرحوم سيد خليفة “أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنَّا” رحمها الله رحمة واسعة فهي جيدة ومرضية بلا شك.
لكن يعيبها القصور في الإتيان بالجديد من ذات الموضوعية التي يعتمد عليها الكاتب، كالحوار بين محسن النجَّار أحد شخصيات الرواية وعبد الجليل في ذكره لأنواع الخشب المستعمل في النجارة وما أشبه ص 43 ثم التصوف من الشخصية المكملة كمال المتصوف التائب من المعاصي صفحة 49 حيث توارى للكاتب ذلك وما هو بذلك، وأراها ازدواجية في المعايير الكتابية يحسبها الكاتب نوعاً من التشويق والإثارة وأحسبها أنا مضيعة للوقت والجهد وربما رءاها من رءاها أنَّها جيدة، وللكاتب ما يريد قوله وإثباته من ذاتيته في باب الحكايا والسرد كما ورد في كل النص وبالتحديد ص 48، والله أعلم.
راجع ترديده لقول الحلَّاج: إلى كم أنت في بحر الخطايا تبارز من يراك ولا تراه.
ثم لاحظ العبارة: [كان إبراهيم يدعو الله أن يجعل فؤاد أمه فارغاً كأم موسى] ص 50 تقريباً، وهذه العبارة تحتاج إلى ضبط والأجود أن تكتب هكذا: كفؤاد أم موسى، وليس كأم موسى، والفرق واضح بين الجملتين وأيضاً خطأ ! لأنَّ فؤاد أم موسى لم يكن فارغاً بل كان ممتلئاً بالثقة في الله والإيمان به على ردِه إليها من جديد لموعود الله لها، لذلك بكل تلك الثقة والإيمان والتوكل ألقت به في اليم ولم تبالي، ومن قال بذلك أي فراغ فؤاد أم موسى – هم المفسرون الذين نقل عنهم من نقل ومنهم صاحبنا هذا.
ثم التواليد للمواضيع وشد أطراف النص خذ هذه الأمثلة:
ص 51 [مزايا التربة السوداء، البناء في الفدادين الزراعية] وصناعة الأثاثات ص 53، حرب مصر ضد إسرائيل وعبور خط برليف للقوات المصرية سنة 1973 ص 56، وانتفاضة رجب أبريل بالسودان ضد نميري ص 60، ودخول جملة اعتراضية لا معنى لها [لم يقبض على المرتزقة بعد] ص 61 إذ قبلها كان يتحدث عن انتفاضة الشعب السوداني ضد نميري وفجأة رجع للوراء لحرب المرتزفة سنة 1976 فلا تخلو من تباين في الفقرة أو قل توهان أو سهيان وما إلى ذلك ثم خلق وتوليد قصة عاطفية جديدة بين الفاضل وصفية ص 64، واتفاقية كامب ديفيد ص 69 والخطأ اللغوي هنا: [قطعت العربة مسافة خمسة وعشرين كيلو متر] ص 70 والصواب: متراً بالتنوين لأنَّها صفة مضافاً إليه.
ومدرسة الخالدية والشرح الممل ص 71 ومقتل السادات ص 74، وغرق الباخرة العاشر من رمضان في النيل ووفاة 350 سودانياً، ثم قوانين سبتمبر 1983 ص 86، وظهور ثغرة لا تغتفر وهي ظهور جاد الله سائق العربة الأوستن في مصر التي لا معنى لها حتى ص 91 وكان من الأفضل تخطي هذه الفقرة مع الأنصاري أخو زوجة جاد الله مباشرة ص 110، ثم الانتفاضة مرَّة أخرى بالسودان سنة 1985.
ثم فيضانات السودان الشهيرة سنة 1988 من الفصل السادس عشر، وتفاصيل سفر معتصم عبد الجليل إلى سوريا من الفصل الثامن عشر ص 106 وكذلك وصف سيرة مغايرة لفترة حكم الإنقاذ الوطني للسودان من ذات الصفحة يتناولها معتصم وأمل في حوار جيد، وهكذا لنهاية الكتاب.
الأفضل مواصلة الموضوع أو وحدة الموضوع لكن يبدو لي واضحاً انقطاع حبل الأفكار لعدم البحث في المصادر والمعلومات حول كيفية الكتابة في قضايا الجرائم إن لم يكن الأساس من هذه الرواية هي حياة عبد الجليل والله أعلم.
الأمر الثاني بعد حصر النص من الفصل التاسع في خمس شخصيات نوعاً ما هم: كمال وصفية وعبد الجليل والفاضل وإبراهيم، هو الوصف الإنشائي الرقيق غير المخل والمتماسك في كل العمل من أوله لآخره واللغة المستعملة جيدة ولا تخلو كما قلت من معلومات تضيف للنص روحاً وبعداً جيداً ترفع من قيمة العمل والمحتوى حتى ص 116.
غالباً الاعتماد على حقيقة المعلومات وصحتها التاريخية تكون عبئاً على النص المتخيل، لأنَّ الكاتب أي كاتب لا يكتب عادة إلا من وحي خياله لموضوع معين ليفيد ويضيف فكرته عن النص حول الموضوع غير المتطرق له، لكن كاتبنا هنا جعلها عموداً للنص ولا يعيبه ذلك لكن الأجدى أن يركز في موضوع وفكرة وإضافة جديدة للقارئ وإلا لكانت تكراراً لما هو معروف بالضرورة إذ حتى صفحة 74 لم أجد عنصر المفاجأة في السرد وكل النص طبيعي وعادي وتلقائي وغير متكلف، وهذه وجه نظر لا أكثر.
قال زهير: ما أرانا نقول إلا معارا أو معاداً من قولنا مكرورا.
يمكنني القول في خاتمة هذه القراءة السريعة للعمل أعلاه أنَّ الكاتب وُفِّقَ في الحِبكة وتسلسل الأحداث بالذات بعد الفصل التاسع حتى نهاية الكتاب رغم ذلك نهاية الرواية لا تخلو من ازدواجية من القفلة المغلقة والموضوع بتلك الكيفية زواج معتصم من أمل بنت عمه على أن تُعاد ذات التجربة في ذات الأسرة.
وفي ذات الوقت تقبل التنبؤ بلا نهاية وهي ما تعرف بالنهايات المفتوحة لفكر القارئ كل يغني على ليلاه، على أن تُعاد ذات التجربة في آخرين لإشارة الكاتب من قول محمود درويش ص 122: [“النهاية أخت البداية، فاذهب تجد ما تركت هناك في انتظارك” قالها لنفسه لقد هربت حين وجبت المواجهة فكيف أجني ثمار الصمود] انتهى.
على الكاتب المزيد من الكتابات الجديدة التي تسهم في المعرفة الإنسانية بخاصة من هذا القبيل وله الشكر حين أمدَّني بهذا العمل للمطالعة والفائدة الذي أنا عنه راضٍ إذا جاز لي حق الرضا فالبداية تشبه النهاية ولا تشبهها وسر لا كبابك الفرس إن شاء الله.