في اليوم العالمي للغة العربية، أقف على ما لهذه اللغة من اشتراك وما بها من امتياز. بل ما بها من امتياز هو ليس خالصا للعرب، بل هو عبقرية الإنسان حين يُنشئ لغة وعلامات تواصل في المكان الذي يمنحه خصوصية.
بهذا كل اللغات هي عبقرية، وكل منها في هذا الامتياز بحسبه، وكلها تنطوي على العالمية، من منطلق ما أعتبره جدلا خلاقا بين العالمية والخصوصية. هذه الأخيرة هي تشخُّص ما هو كوني، باعتبار أنه لا وجود للكوني في الواقع، فلا بدّ أن يختص بتجربة في المكان ونسق دلالي في محل، للمحل وللحيز معنى خاص في الفكر الجغرافي، أي ما تنشأ فيه علاقات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية ولغوية.
تصبح العالمية هنا كما ذهب جان بودريار تحدّي لتلك الخصوصية، تصبح العالمية بمدلولها الايديولوجي خصوصية. العالمية لا تتجلى إلاّ في تنوع الخصوصي الذي يحيل إلى ملكة الإبدع اللغوي، على أساس عالمية التنوع قامت مهمة اليونسكو في تعزيز سياسة حوار الحضارات وحماية التراث اللامادي للشعوب.
لا تحتاج اللغة العربية إلى من يدافع عن قيمتها التّاريخية وجدواها الحضارية. فهذا عبث لا طائلة من ورائه. هناك بعد جيوستراتيجي للغة أيضا، بمقتضاه تنتعش لغة على حساب اخرى. لكن اللغة العربية ككل لغة، طورت نفسها من خلال ما قدمته، تمسّكا بشعرية اللغة نفسها. ستجد قيمة اللغة العربية في الشعر وهو ديوان العرب، وفي الفلسفة كنديا وفارابيّا وسينويّا ورشديا، وفي العلوم جابريا وبيطاريّا وسيناويا.. لا يوجد قطاع معرفي تلكّأت فيه العربية وتراخت، إنّها لغة حيّة. ومن لغا فلا وفاء له.
لا توجد لغة غير قادرة على احتضان العلم، يشمل هذا الحكم أيضا ما يسمى بلغات الشعوب البدائية، كما يحلوا وصفها عند الإثنوغرافيين. لا يوجد مفهوم عصي على لغة قط. ولو أمعنّا النظر، وهذا مبحث لا أريد أن افتحه الآن، فإنّ العربية القديمة هي أصل أسرة اللغات السامية، إن أردنا الدخول في لعبة أصول اللغات ومعاني الألفاظ.
فإن وجدت نظائر في الألفاظ أو المباني أو تشابه في الفونيتيك، فذلك فضل للعربية وليس ما يجول في رؤوس غير مستوعبة لتاريخ وتطور وانسياح وتعيّن اللغات. أجاب ليفي سترواس على سائله: لماذا لا زلت تستعمل الـ (L’imparfait du subjonctif) في كتاباتك، حيث انقرضت في الاستعمال الفرنسي، الجواب بما معناه، أن تلك اللغة التي رآها مجيدة وعريقة وكانت أجمل اللغات التي تحدث بها الأوربيون المعجبون بالفرنسية، لماذا إذن الاستغناء عن ذلك؟ إنّ من يحاول عبثا مسّ اللغة العربية واستنقاصها، هو يعبر بالأحرى عن عقدة حضارية مزمنة، يهين أصل الملكة اللغوية، يهين الإنسان مذ عرفه ارسطو بذلك الحيوان الناطق. خاصية اللغة من حيث النطق ومن حيث التمنطق، حيث هي مأوى الكليات.
أن تكون اللغة العربية لغة الضاد أو لا تكون، لا يهمّ، ليس هذا توصيفا وحيانيّا، وإن كان علامة في عصر شموخها، وإن كانت تلك الضاد المعنية غير ممكن النطق بها اليوم، فهي فونيتيكيا من جملة المنقرضات، لا عند عرب الجنوب ولا عرب الشمال.
تكمن قوة العربية وميزاتها في نسقها الجمالي، في انسياب مخارجها ضمن سلاليم موسيقية مميزة، في حامليها ممن انجبتهم المروءة، لغة الفرسان، ولغة الرومانسية والحب الذي منها انتقل الى اوربا الوسيطة حسب جاك لوغوف. من أدرك سرّ اللّحن، أدرك عبقرية العربية. وهذا إكمال لأسرة اللغات العالمية التي نطق بها الإنسان، فمن أغمط العربية حقها أو أغمط أي لغة إنسانية حقها، ارتكب جريمة ضد حقوق الإنسان ترقى إلى جريمة حرب.
لكل لغة خصوصية، ولكل منها ميزات جمالية، ولكل منها فتوق وفراغات وثُلم وهنّات، لذا داخل كلّ لغة هناك ما هو أفصح في التعبير وأبلغ في المعنى، فكل لغة تصحح فتوقها وترقى في نحت مخارجها، فتتجاوز نفسها بنفسها في نفسها لنفسها.