
كانت عطلة ممتازة إمتدت من يوم السبت حتى الثلاثاء حين سألت، قالوا الاثنين الثاني من أكتوبر هو عيد الشكر في كندا وصادف هذا العام 2023م يوم 9 اكتوبر.
البرد لم يزحف بعد، ولكنه يداعب الوجنات.. وهكذا مع تساقط أوراق شجر القيقب وزحف البرد الكندي، يلتئم شمل العائلة في المساء على وليمة فاخرة من لحم الديك الرومي وقرعة العسل (اليقطين)، إنها أيام أكتوبر ونوفبر في الشمال الأمريكي للاحتفال بيوم الشكر (Thanksgiving).. حاليا نشهد زحفا عربيا للاستيطان في كندا، كما فعل الأوربيون قبل أربعة قرون.
حاليا حيثما توجهت في مونتريال أسمع العرب يرطنون بلهجاتهم. في كوسكو تحدثت مع الصيدلانية المصرية (شيرين). لما خرجت من محل كوسكو Costco) )كانت عراقية محجبة تثغو باللهجة العراقية أكو .. ماكو.
في وكالة الحصول على شهادة السواقة كانت زوجتي المغربية تتحدث (بزاف) مغربي! انتبه إليها الموظف (المغربي ـ الكندي) الذي يستقبل ويوجه القادمين وعلق: من يسوق في المغرب يسوق في كل العالم لا خوف عليه! قلت له: يبدو أنك لم تجرب السياقة في السعودية؟ فعلا يحق لمن يصل إلى هذه البلاد كندا أن يشكر الله على ثلاث: الرزق والأمن واحترام الإنسان.
ولكن القصة تبدأ قبل أربعة قرون، حين قام مارتن فروبيشر Sir Martin Frobisher) ) عام 1578 م في رحلته الأولى من بريطانيا على رأس 15 سفينة، في محاولة إنشاء أول مستعمرة بريطانية صغيرة في منطقة (نونافوت)، حيث السكان الأصليون، ولكن ثلوج كندا وصقيعها السيبيري كان غير البرد الإنجليزي المنعش، كما أعرف ذلك أنا من جو ألمانيا التي تخصصت فيها؛ فبرد الشتاء هناك لا يقارن مع البرد الكندي، الذي تنزل فيه الحرارة إلى ثلاثين وأربعين تحت الصفر.
صاحبنا السيد الإنجليزي الرحالة لم يستطع أن يؤسس شيئا وبدأ طاقمه في الموت البطيء؛ فهلك عُشر البحارة وهم يرتجفون بردا وجوعا؛ فما كان من صاحبنا (مارتن فروبيشر) إلا أن يظفر من الغنيمة بالإياب؛ فولى الأدبار إلى جزيرته الحالمة ولم يعقب، ولم يكن من شكر إلا أن يشكر المنان على الفوز بالنجاة.
سمع الفرنساوية بحرص أخبار الرحلات الإسبانية المحملة بالذهب والفضة، حيث تبنى بيوت من زخرف لفرديناند وإيزابيلا؛ فقد فك السحر (كريستوبال كولون) فبدل الاقتتال مع الأتراك في الجبهة الشرقية، وهزيمتهم أمام ألب أرسلان في ملاذكرد وأسر مليكهم ديوجينيس.
فقد فتح الله عليهم من كنوزه خلف بحر الظلمات وراء مضيق هرقل الجبار، وهكذا فقد كان الضغط العثماني بركة عليهم، حين أصبح ظهرهم للمحيط، أن يلجوا عباب المحيط بجسارة، فيمتلكوا خمس قارات وآلاف الجزرالغنية. ولأن الإنجليز هم أساتذة القرصنة؛ فقد كان (ديريك) يفعل كما يفعل طير الوقواق فيسرق ممن سرق، وهكذا كان يسطو على السفن الإسبانية المحملة بذهب المكسيك وفضة البيرو.
ومن رحم القرصنة خرجت الملكة أليزابيث ذات الشعر الأحمر بنت آن بولين وهنري الثامن، ومعها ديريك القرصان بجزيرة ذات مهابة اسمها اليوم إنجلترا بريطانيا العظمى، تهزم أسطول الأرمادا الإسباني، وتتخلص من الكثلكة والبابا إلى الأبد.
في عام 1604م اشتدت المنافسة فانطلق (صامويل شامبلين) الفرنساوي إلى ما يعرف بكندا الحالية، واحتفل مع السكان الأصليين بأول عيد شكر على الوصول بالسلامة إلى الأرض الجديدة، لتنشأ لاحقا ولاية كيبيك (فرنسا الجديدة)، التي يتدفق إليها المهاجرون من أطراف المعمورة، ويتعلمون لغة لويس الرابع عشر.
في أمريكا حصل أمر مغاير فقد هرب البريطانيون من الاضطهاد الديني إلى هولندا، ومنها ركبوا قارب الموت (Mayflower) فمات منهم الكثير، كما في السوريين الذين مزقوا شر ممزق وتركوا الطفل إيلان على الساحل جثة. وصلوا أخيرا إلى مدينة بليموث من ولاية ماساشوست الحالية عام 1620م.
وهناك كادوا أن يموتوا جوعا وقرا، فأشفق عليهم اثنان من الهنود الحمر هما (ساموسيت) و(سكوانتو)، فأطعموهم من جوع وآمنوهم من خوف وعلموهم الصيد والزراعة كي يصمدوا ويبقوا على قيد الحياة؛ فرد الأمريكيون الجميل بأفضل منه بإبادتهم بالبنادق وحصرهم في محميات خاصة، كما حصل في (كندا) في جريمة القرن الذي دفع الحكومة الكندية إلى مراجعة ما حدث، بعد أن سرقت أولادهم في ستينات القرن الفائت بدعوى إدخالهم في الحضارة.
فسلبت منهم مقومات الثقافة من لغة وعادات ودين، وأخيرا اعتذرت وقدمت تعويضا بمبلغ 800 مليون دولار مع عيد الشكر الكندي لعام 2017م، بمعدل بين 25 و50 ألف دولار لكل فرد. وتأسيسا لعيد الشكر في كندا فقد أعلنت الكونفودرالية عام 1872م الاحتفال به، على أن يكون في الخامس من أبريل، وكان ذلك شكرا لله على نجاة الأمير (ويلز) من مرض عضال، وأصبح لاحقا الملك إدوراد الثامن.
وأخيرا تقرر في البرلمان الكندي عام 1957م أن يكون الاثنين الثاني من شهر أكتوبر مضافا إلى عطلة نهاية الأسبوع وصادف عندنا يوم 9 اكتوبر من عام 2023م ، فتصبح عطلة استرخاء لكل العائلة ثلاثة أيام. أما في أمريكا فيحتفل بيوم عيد الشكر في الرابع من نوفبر، فيضحى في مذبحة عارمةبـ11 مليون ديك حبش في يوم واحد، وتخفيفا لآلام هذا الشعب من ديوك الحبش فقد قرر الكونغرس عام 1989م أن يهدى ديك واحد للرئيس الأمريكي على قيد الحياة فيعفو عنه.
وكأننا في روما مع اقتتال المجالدين والعفو عن البطل بمنحه سيفا خشبيا! نعم أمريكا إنها روما الجديدة التي لا تعرف الرحمة؛ فتقتل في كل مكان، وتنشر 63 قاعدة لها في كل أرجاء الأرض وتقول: أنا ربكم الأعلى!