ماعاناه المغرب على مدى ما يقارب نصف قرن من الزمن في محاولات يائسة من خصومه للحيولة دون استكمال وحدته الترابية بنية مدبرة ومبيتة لمحاصرته وعزله عن عمقه الإفريقي، وبعد أن فرض عليه نزاع مفتعل كلفه ما كلفه من خسائر بشرية واستنزاف لثرواته وهدر لأمواله.
فإن المغرب بعد خروجه من هذه المحنة قوي الشكيمة مرصوص البنيان فضل من زاوية اهتمامه بالشأن الإفريقي أن يضع تجاربه وخبراته وكأمة في بعديها التاريخي والجغرافي تحت تصرف دول القارة السمراء وخاصة تلك الدول التي هي الأخرى مستهدفة في كيانها كما يبدو من خلال المشهد الإقليمي الذي يعج بسياسات مناوئة إما بمحاولات انقلابية أو من خلال اللعب على النعرات القبلية توطئة للبلقنة والانفصال.
المغرب في هذا الشأن يحتفظ للأشقاء الأفارقة بمقاربة تعتبر بمثابة طوق نجاة، وهي مقاربة قائمة على التضامن والتآزر وترمي في المحصلة النهائية إلى التكتل والوحدة كاستراتيجيات لإفشال المخططات المناوئة.
وهي كذلك مقاربة شمولية وتشاركية تتساوى فيها جميع الأبعاد التنموية المرتبطة بنهضة اقتصادية واجتماعية بما فيها السلم الاجتماعي، وأبعاد أمنية في مواجهة التيارات المتطرفة والحركات الإرهابية.
واليوم يدخل المغرب معركة جديدة لتعزيز مكاسبه وإنجازاته. إنها معركة الجغرافية ومعركة الاقتصاد الأزرق.
الجولات المكوكية التي كان يقوم بها جلالة الملك محمد السادس في ربوع القارة السمراء حمل خلالها رسائل ذات أبعاد إنسانية واقتصادية تعيد للإنسان الإفريقي كرامته وهيبته وإخراجه من الإحساس بالدونية كما كان ينظر إليه الغرب أو بعض الدول التي فرخها الاستعمار لتبقى شوكة في خاصرة إفريقيا تنوب عن المستعمر في مواصلة خططه المناوئة.
من بين تلك الرسائل الملكية إلغاء ديون المملكة على العديد من الدول الإفريقية، ترحيل الأفارقة على نفقة المغرب من بعض بؤر التوتر في العالم، تسوية وضعية المهاجرين الأفارقة المقيمين على التراب المغربي على عكس بعض دول الجوار التي كانت تذلهم وتتعامل معهم بمعاملات غير إنسانية ولا تليق بآدميتهم.
بكل تأكيد أن لكل حاكم أسلوبه. والقاسم المشترك بين المغفور له الحسن الثاني ووارث سره الملك محمد السادس يكمن في الثروة المائية، الحسن الثاني وجد ضالته في سياسة بناء السدود وكان الوعد في مستوى الحدث.
والملك محمد السادس التمس خيرات تلك المادة الحيوية في سياسة بناء الموانئ وتحلية مياه البحر. وخير ما يفعله جلالته اليوم هو حرصه على إعطاء 350 ألف كلم كواجهة بحرية مدلولا سياسيا واقتصاديا وتوظيفها للإمساك بناصية المعادلات والاستراتيجيات القارية والدولية.
وتعددت الرسائل الملكية في أبعادها الاقتصادية بتعميق أوجه التعاون وتنويعه مع مختلف الدول الإفريقية من خلال إقامة مشاريع تنموية تشمل مجالات التعاون الفلاحي والتعاون المؤسساتي من قبيل فتح فروع لمكاتب الدراسات في مجال الفوسفاط والأسمدة وفتح فروع لمصارف وبنوك مغربية لتمويل مشاريع في مجال البناء وتشييد البنية التحتية بما يعود على تلك البلدان الإفريقية بالنفع وإيجاد فرص العمل للشباب.
إجمالا المقاربة المغربية تجاه القارة الإفريقية هي مقربة تشاركية قائمة بالدرجة الأولى على قاعدة “رابح ـ رابح”.
وهي مقاربة تتنافى كليا مع مقاربة الاستغلال الفاحش أو فرض الوصاية وأسلوب مساومة وابتزاز بعض الدول كما يتجرأ النظام الجزائري بالوقوف وراء هندسة انقلابات والانفصال ضدا في بعض الدول المجاورة منها على وجه التحديد دول الساحل، مثلما يحدث في هذه اللحظة كمحاولة تقسيم دولة مالي.
اليوم يضع المغرب كل إمكانياته ليعطي بعدا حقيقيا لمفهوم “إفريقيا للأفارقة”، ويسخر خيراته وترابه ومياهه الأطلسية لخدمة الأشقاء الأفارقة.
ويتجلى ذلك من خلال المبادرة الملكية الأخيرة التي تندرج في سياق دبلوماسية شمولية، وهي مبادرة تفتح الأبواب لتمكين دول الساحل المحاصرة داخل القارة من الوصول إلى المياه الأطلسية وولوجها عبر الموانئ المغربية وفي مقدمتها الميناء الأطلسي لمدينة الداخلة الرابط ما بين القارات الثلاث إفريقيا وأوروبا وأمريكا.
هذه المبادرة تعكس رؤيا ملكية تصل الحاضر بالمستقبل كما هو الشأن مع القارات الثلاث.
وهي نظرة استباقية بنيت على عدة معطيات وقراءات للواقع الراهن وما يحتفظ به من منجزات وتصورات في أفق عقد من الزمن الآتي، وقد يعود الفضل إلى حكمة ملك الذي بذل الجهد الجهيد لكي يخرج مشروع أنبوب الغاز من نجيريا إلى المغرب ومنه إلى أوروبا.
وكان حرص جلالة الملك شخصيا على أهمية هذا المشروع انطلاقا من إيمانه بأنه سوف يحدث نهضة اقتصادية على مستوى دول غرب إفريقيا.
ومن حكمة جلالته وقراءته المتبصرة لما سوف يكون عليه المستقبل، طرح جلالته مبادرته السامية لتمكين دول الساحل من ولوج المياه الأطلسية. ولدراسة هذه المبادرة وإثرائها بنقاشات من طرف الدول المعنية، دعي وزراء خارجية كل من مالي ونيجير وبوركينا فاسو وتشاد إلى اجتماع تنسيقي بمراكش برئاسة وزير خارجية المغرب السيد ناصر بوريطة.
هذه المبادرة حظيت بمباركة وإشادة وزراء الدول المشاركة واستحسنوا جدواها على مستوى المنطقة ككل.
ومن المؤكد أن ريادة المغرب في هذا المحفل الإقليمي مطلوبة ومرغوب فيها، أولا لأنه صاحب المبادرة وثانيا يملك المغرب من المقومات الجغرافية والإمكانيات اللوجيستية والخبرة ما يؤهله للدفع بهذا المشروع نحو تكامل اقتصادي على مستوى دول المنطقة.
ثالثا أن المغرب قادر على توفير متطلبات هذا المشروع بالنظر إلى خبرته الواسعة في مجال البنية التحتية من طرق وسكك حديدية وموانئ لربط اقتصاديات الدول المنغلقة بالاقتصاد الأزرق.
رابعا إنه قادر بعلاقاته الخارجية وبمصداقيته في اقتران القول بالفعل على أن يساهم في رعاية وتدبير وتمويل تلك المشاريع الضخمة مع الدول الشقيقة والصديقة ومع الأبناك والصناديق الإقليمية والدولية.
هذا هو حال المغرب لكي يكون إفريقي الوجدان وحدوي النزعة خيره لشعبه ولأشقائه، ماضيه كحاضره و كمستقبله رائدا وملهما في كل تحركاته وسياساته لما يخدم إفريقيا حفاظا على وحدتها وصونا لكرامة الإنسان الإفريقي.
وعلى العكس من ذلك هناك دول عقيدتها مبنية على العداء تتواطأ سرا وجهرا ضدا في الجار. وقد افتعلت نزاعات ورهنت المنطقة وأقبرت أحلام شعوبها من أجل إيجاد موطئ قدم على المياه الأطلسية، لكن قد خاب ظنها اليوم ووقفت على حقيقة ما كانت تخشاه من أن يؤول ذلك إلى المغرب.
وبالواضح المكشوف إذا كان النظام الجزائري قد طالعنا البارحة بخرجة فيها نوع من التودد تجاه المغرب، فهل ذلك يعني أنه قد استشعر خطورة المآل وفورة هذه التحولات؟
المهم إذا صفيت النوايا فإن المغرب كدأبه في سياسته كان وما يزال صاحب سياسة اليد الممدودة. وغارة اجبيلات هي أقرب إلى المياه الأطلسية من المياه المتوسطية.
ويبقى فقط احترام التعهدات والالتزامات لصون الحقوق المتفق عليها بين المغرب والجزائر.