
أذكر تماما الورقة التي تقدمت بها في مؤتمر طبي في مدينة (البكيرية) في منطقة (القصيم) في السعودية حين تحدثت عن أمهات الدم (Aneurysm) وهي الانتفاخات الخطيرة في الشرايين، التي تعرض صاحبها للموت الفجائي بالانفجار إذا بلغ الحد الخطير.
وهي على العموم أحد ثلاثة أسباب بالموت المفاجيء؛ بعد احتشاء القلب الواسع، وخثرة الأوردة الرئوية. وحديثنا هنا ليس في الطب بل بعلاقة المفاهيم بالتاريخ والتطور.
في هذا اللقاء العلمي تحدثت عن معالجة هذه العلة تاريخيا وذكرت أن (الزهراوي) الجراح العربي في كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) كيف نصح بأمر، ونهى عن أمر، نصح بأن تربط هذه الانتفاخات من عنقها وذيلها بخيطان الحرير، التي لا تذوب، وذهب المثل في خيطان الحرير نعومة ومتانة، ونهى عن (بطها) أي ثقبها، وكان الرجل محقا فأنا أعرف معنى هذا الكلام ميدانيا.
كانت هذه إمكانياتهم في وقتهم، وكانوا سباقين في المعالجة، مع ملاحظة أن ربط هذا الانتفاخ سيؤدي إلى قطع الدم عن العضو الذي يغذيه، كما لو أغلقت صنبور الماء عن حديقة غنّاء. وهذا المثل سوف ينفعنا لفهم مشكلة القرآن وكتب التفسير.
إن حديثنا عن معالجة الرازي لأمهات الدم ممتازة لأخذ فكرة عن التطور العلمي، وفي السنة نعرف أن الصحابي (سعد بن معاذ) أصيب في معركة الخندق في (الأكحل) وهو العرق الذي لا يرقأ (لايكف عن النزف).
كانت المعالجة يومها حرق حصير ودفن المكان برماده، وفي تقديري أنه أصيب في الشريان الإبطي (Axilla Artery) وهو الذي انفجر عليه لاحقا فمات بالنزف، ولكن مثل هذه المعالجات لمنع النزف أو معالجته، هي قصص تروى لكيفية تطور العلم، وينطبق هذا أيضا على كتب التفاسير في عمومها، فهي إضاءات لعصور عاش أصحابها وفق إحداثياتها، فهم يدلون برأيهم في حقيقة كونية مثل القرآن.
القرآن تحليق علوي ومصدر من الحكمة اللانهائية، أما كتب التفسير فهي محاولات بشرية تقترب وتبتعد عن فهم هذا المصدر المطلق. طالما كانت قناة اللغة هي التي تفتح الطرق للتعامل معه؟
أكرر كثيرا أن القرآن آية وآيات مثل دورة القمر وبزوغ الشمس ودورة الالكترون وبناء الذرة والكود الوراثي والفيمتو ثانية وحب الحصيد. أي أنه ظاهرة كونية لانهائية من الحقائق.
أما كتب التفسير فهي محاولات بشرية لعقل يسلط الضوء وفق معارف ممنوحة له يفهم بها محتوى هذا الكتاب وما جاء به من حكمة التاريخ. وأي محاضر في ندوة علمية يتكلم عن الرازي والزهراوي ويقف عنده سوف ينال السخرية، وهو حالنا مع كتب التفسير التي لانتجرأ على تجاوزها وهي سدود أمام الفهم.
أنا شخصيا في مكتبتي لا يقل عن عشرة كتب أو بالأحرى مجموعات تفسير، فكتب التفسير في العادة، هي أكبر من مجلد واحد، إلا فيما ندر، كما أنني أعرف أهمية كل كتاب تفسير بما ينفع، فتفسير (النسفي) مثلا ينفع في فك معاني المفردات اللغوية، أما كتاب التفسير لـ (ابن كثير) مثلا فهو يحاول شرح آية بآية، كما أن هناك فوارق هامة بين كتب التفسير القديمة مثل القرطبي، والحديثة مثل القاسمي والظلال والمنار للبناني (رشيد رضا) فضلا عن تفسير الفاتحة لـ (محمد عبده)، وهناك من حاول تجنيد العلم الحديث أيضا لفهمه للقرآن، أحسب أن (الجواهري) واحد منهم، كما أن الواعظ الشعبي (الشعراوي) حاول توظيف أمور من هذا القبيل في تفسيره للعامة.
ويبقى تفسير (في ظلال القرآن) للمصري سيد قطب محاولتين الأولى غلبها الحس الجمالي الأدبي، كما في كتابه الأخر عن (التصوير الفني في القرآن) أو (مشاهد القيامة في القرآن)، حتى خرج من محبسه عند الطاغية عبد الناصر بتعديل خطير و(سياسي) في مفاهيمه وفهمه للقرآن الكريم، وهذا التعديل لم يمتد لكل القرآن؛ بل فيما إطلعت عليه وصل حتى تفسير سورة التوبة (الجزء 11)، وهي على كل حال أكثر من كافية، طالما وصل لـ (آية السيف) التي نسخت ما قبلها على حد قوله؛ أن اللسان للبيان والسيف لمقاومة الطغيان إذا تشكلت القاعدة الصلبة الواعية، ولم يخب ظنه فقد وصلت قاعدته إلى برجي نيويورك في حادث التفجير المشئوم الذي غيّر العالم.
نضيف أيضا إلى هذه المحاولات فيما اطلعت وعرفت في الوسط الفكري العربي محاولات (باقر الصدر) في حديثه عن (التفسير الموضوعي) أو بعض كتابات (عابد الجابري) المغربي، أو (المودودي) الذي قرأنا له بالعربية تفسير سورة النور، وفيما بلغني أنه توسع أكثر، أو الشحرور الذي تحدث عن الكتاب والقرآن في قراءة معاصرة وخرج بمفهوم (الشقوق عند النساء).
فحرك الجو وأثار غيظ الكثيرين، واعتمد أداة اللغة لفهم القرآن، وهي لعبة قديمة تحدث عنها الفيلسوف النمساوي (فتجنشتاين) حين قال عن اللغة إنها لعبة، وهكذا فيمكن لبهلوان اللغة أن يفعل كما يفعل الحواة في السيرك فيخرجون أرانب بيضاء من قبعات سوداء، كما أنني اطلعت على نشاط بعض البوسنيين في مكتبة دار الفكر الدمشقية كيف حاولوا إيجاد حلقات البوزل ـ الأحاجي أو الصور المقطعة ـ في القرآن (Puzzel)، وهو مشروع مغري ومزكى حيث يمكن بهذه الطريقة رؤية القرآن على شكل مسلسل أشبه بالفيلم أو لنقل بالصورة المتكاملة. (عبد الرحمن الباني).
بدوره وضع كتابا بعنوان الفيلم القرآني هو في مكتبتي في كندا، أي أنه يمكن جمع مواضيع القرآن كما فعل البوسنيين، أو مسح (Screening) كل ما جاء في القرآن، وليكن مثلا عن موسى، كم عدد المرات التي ذكر فيها؟ وبماذا تختلف الآيات عن بعضها؟ مثلا يبوسة أرض البحر في سورة طه، وأن يترك موسى البحر (رهوا) في سورة الدخان، فبعد أن شقه بالعصا ووصل إلى الطرف الآخر كان فرعون يغذ الطريق حثيثا مع جيش لجب خلف الفارين المذعورين من بني إسرائيل، حاول موسى أن يجرب ضرب العصا من جديد ليطبق عليهم البحر، كان التوجيه انتظر يا موسى فالخطة أن لا يبقى منهم حي يرزق، سوى بدن للعبرة في جبار القوم. كذلك في عشرات المواقع كأننا في داخل دماغ موسى نقرأ انفعالاته وتخوفاته (فأوجس في نفسه خيفة موسى).
إنه من الأهمية بمكان وضع تفسير عصري للقرآن بالصور والبيانات والمسح التاريخي والفائدة العلمية وأتمنى أن يعينني ربي، ولربما سيفعل بي ما حصل مع ابن خلدون، حين استقر به المقام لفترة في المغرب فأنتج مقدمته الشهيرة. بالطبع أنا أطمع وأطمح أن أصل لمثل هذا التحليق الفكري، ولكن علينا أن نتحلى بحلية التواضع؛ فلا نعطي لأنفسنا شيئا هو أكبر بكثير مما هي حقيقة الباحث؛ فمثل هذه الضربات الفكرية نادرة جدا.
كذلك علينا أن نفهم من قصة موسى وفرعون وربما جاء هذا في أكثر من ثلاثين موضعا، ولربما ذكر موسى أكثر من مائة مرة في القرآن الكريم، كله لأن موسى كان يواجه أعظم حضارة على وجه الأرض في زمانه، وحين دخل المسلمون مصر لم يكن واحد من الصحابة والتابعين يستطيع فك سطر واحد مما كتبوا، بل فكر البعض في هدمها كما فعلت جماعة داعش في آثار الموصل، والطالبان في أفغانستان في تماثيل بوذا.
نعم لقد فكر ـ فيما اطلعت ـ الرشيد في هدم إيوان كسرى وعمر ر والمأمون في تدمير آثار الحضارة الفرعونية، ويقول ابن خلدون في هذا الصدد أن الفرق بين العملين هو أنهم عجزوا عن التخريب فكيف بالبناء؟
هذا الكلام تحدثت به يوما في جدة في قناة (اقرأ) وبالطبع لم يؤخذ على محمل الجد أو الصدق فكيف يفعل أجدادنا مثل هذا؟ ونسوا طبيعة العقلية الأعرابية أمام الحضارات العظيمة، بل نقل ابن خلدون عن ابن البرمكي وهارون الرشيد كيف تضايق من معايرة أجداد هذا بأجداد ذلك فنوى الرشيد أن يهدم إيوان كسرى فعجز. وبقيت الآثار حتى جاء علماء الآثار فنقلوا اللغات القديمة وأنطقوها، وهذا حديث طويل آخر.
هنا أتذكر (فكرة القبة السماوية) بمعنى أن الناظر العادي إلى قبة السماء، يرى في سماء صاحية، كما في صحراء (أتا كاما) في تشيلي عشرة آلاف نجم مضيء بالعين العادية.
ولا يلاحظ سوى انتثارا في النجوم كما سماها العرب درب التبانة، كأن أحدا نثر تبنا في قبة السماء، ويسميها الغربيون طريق الحليب (Milk Way) كأن حليبا نثر في طريق، وهي في الحقيقة المجرة التي ننتسب لها.
هذا الحليب أو التبن يحوي أسرارا وأنظمة، استطاع الفلكيون تحديد أمور كثيرة فيها منها استقرار الشمال والجنوب والدب الأكبر والأصغر والشعرى اليمانية، أما في تلسكوب هابل الذي قذف إلى السماء على علو مائة كيلومتر فهو يرى عمق السماء حتى سبعة مليارات سنة، أي الاقتراب من لحظة الانفجار العظيم (13,7) مليار سنة، بل هم في طريقهم بعد إطلاق تلسكوب (جيمس ويب) إلى عمق 1,5 مليون كم فيرون بداية نشوء الكون ونقطة الانفجار العظيم.
أعني أن القرآن هو مثل السماء المرصعة بالنجوم علينا فهم الأنظمة الموجودة فيها، بكلمة أخرى القرآن في أحسن الأحوال تم إضافة شيء عليه هو فهرسة السور وأرقام صفحاتها، ولكن المواضيع لم يفعل لها شيء، ولم يتجرأ أحد على ذلك، وعلينا أن نفعل هذا في اكتشاف أنظمة العمل فيه.
المثل الواضح في هذا الآيات المتناثرات عن القتال في سبيل الله؟ يجب جمع كل ما جاء في القرآن عنها ومحاولة اكتشاف النظام الذي يجمع بينها من خلال رؤية تاريخية.
نشير هنا أيضا إلى مشروع (الجينوم القرآني) الذي يعمل عليه الألمان لجمع كل ما يتعلق به في بنك معلومات، ثم السهر عليه في التحليل من لجان أخرى، من المفروض أن ينتهي عام 2025م وليس علم عندي إلى أين وصل المشروع.
كذلك وقع تحت يدي في ألمانيا قرآنا مترجما عن الجماعة الأحمدية ولاحظت فيه اختلافا عما يعرفه مجموع التفاسير التقليدية (نفرا من الجن عندهم جماعة من اليهود) وفي ألمانيا أحضر لي أحد أتباعهم كتابهم المقدس المعتمد فقرأته فلم أجده يستحق التقديس، ولكن علينا احترام خرافات الجميع، فلكل جماعة خرافات.
ومما وقع في يدي كتاب لشيخ مصري دمنهوري يبطل حجة القرآن وبلاغته وإن كان يعترف أن هناك أمكنة قوية جدا فيه، كما في سورة الأعراف حين ينقل القرآن مخاطبات أهل الجنة والنار والأعراف بالماضي (ونادى أصحاب الأعراف) وفاته أن الزمن لنا وأن ما قضي قضى وانتهى. وأرسل لي أنس في مدينة الجديدة تسجيل لرجل يسمى نفسه محمد المسيح يتحدث عن تناقضات في القرآن ويزعم أن التنقيط والتشكيل غير القرآن وهو ليس بجديد ومما قال عن (وجاؤوا أباهم عشاء يبكون) أنها بالأصح (وجاؤوا أباهم غشا يبكون) وهو ليس بقوي، والمهم في عالم الديجتال الحالي أن الكل يبصق مافيه بطنه دما أو قيحا.
ويبقى عندنا مشكلة أخرى تحتاج إلى فكفكة سألني فيها شاب نبيه من الجديدة لماذا لم يكتب القرآن حسب النزول؟ أي حسب وقت تتابعه الكرونولوجي وهو سؤال جدير بالبحث والتناول.
وختاما لفقرة البحث الحالية نشير إلى أنه مع بعثة “النبي صلى الله عليه وسلم” دغدغ مشاعر الكثيرين من الطموحين الكذابين في الجزيرة العربية ادعاء النبوة، حتى أن مسيلمة اعتبر نفسه في نقابة خاصة مثل نقابة الحلاقين والجزارين والأطباء فراسله على هذه الشاكلة من النبي الزميل إلى النبي الزميل (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله) : أما بعد فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوم يعتدون؟
أضاف مسيلمة أنه إن كان محمدا أتى بسورة البقرة والعنكبوت فقد نسي الضفدع (القرقارة) المسكين، فأطلق حملة تعاطف مع الحيوانات فكتب سورتين في مدح الفيل والضفدع:
يا ضفدع بنت ضفدعين. نقي ما تنقين، لا الشارب تمنعين. ولا الماء تكدرين. نصفك في الماء. ونصفك في الطين.