إنّ محور الفعل الجيوستراتيجي في نهاية المطاف هو الدازاين. فإذا كان هالفورد ماكندر قد اعتبر الجغرافيا محورا للتاريخ، فإنّ الدازاين هنا، هو محور الجغرافيا والتاريخ معا. لا أتحدث هنا عن الجغرافيا السياسية أو الاستراتيجية – وتفاديا لخلطة المفاهيم التي تزداد التباسا عند تُرجمانها العربي، حيث الترجمة نفسها لها شروطها الجيوسياسية- بوصفها أولا وقبل كل شيء مادة فيزيقية، بل سنتحدث عنها الآن كمادة ميتافزيقية.
هل سنذكّركم بالجغرافيا السياسية للميتافيزقا في مولدها ونشأتها في حيّز الأغورا (Agora)، حيث تكاملت الميتافيزقا التي سترهن المدينة وقومها وماهيتها الجماعية، في ميلاد الوعي بتدبير العقل والمدينة؟
ليس هذا مطلبنا الآن، فالجيو-فلسفة انتقلت بالعدوى والوراثة لتعزز مركزية الحكمة الحديثة في الغرب، أو حين حدوث الصدع تعود بها جينيالوجيا إلى ما تحت أنقاذ إغريقيا، بحثا عن رميم أو وثيقة فيلولوجية لاستئناف المسار. سيُحيلنا هذا إلى سؤال التنوع الحضاري الذي هو اليوم أنشودة الخلاص الجيوستراتيجي، وسأعود إلى ذلك بعد قليل.
في صُلب النزاع القائم، وحيث يعتقد السياسي أنّه على قدر من الاستيعاب لمسارات الصراع السياسي، تكمن فلسفة كاملة هي من يُؤطِّر هذا المخاض الجيوستراتيجي.
افتعال الاستغناء عن الفيلسوف في تدبير العقل السياسي، يفتح الباب أمام كل أشكال الهدر، أي التفاعل مع الآني وليس الحاضر، مع المقبل وليس المستقبل، وهما ما يميز جيوستراتيجيا الدازاين الهيدغيري الذي عزز رؤية ألكسندر دوغين، التي من دونها سنجهل ما يحدث على ساحة الهارتلاند اليوم.
حاولت قبل فترة أن أستدرج الفيلسوف النمساوي، هانز كوكلر، وهو الوريث الأكبر لهيدغر، إلى ما ينطوي عليه الدازاين الهيدغيري من أفق جيوستراتيجي، لكنني لم أجد مُرادي، حيث أكد على خلو المهمة الهيدغيرية من المقاربة السياسية. وكنت أدرك أنّ الفلسفة مهما تبرّمت من السياسة فهي داخلة ومدخولة في وبـ”الجغرافيا السياسية”، ألم نتحدّث من قبلُ عن اللاّّوعي الجغرافي؟
لعلّ ألكسندر دوغين، قد اهتدى إلى ما نحن بصدده، فلقد استوحى هذا الأخير من هيدغر الأسس الميتافيزقية الجديدة لمشروعه السُّلافي الجديد. يدرك دوغين بأن هيدغر اهتم بالفلسفة السياسة في الفترة الفاصلة بين الثلاثينات وأوائل الأربعينات، ويبرر دوغين ذلك، بكون هيدغر كان مناهضا للرأسمالية والشيوعية كما يعترف بأن موقفه من النازية كان في نظره جيدا، وذلك نظرا لرفضه بعضا من أسسها الأيديولوجية كالحداثة والمادية والتقنية.
المهمّ في موقف دوغين، هو تكيده على أننا نستطيع استنتاج أيديولوجيا سياسية ضمنية من كتابات هيدغر، يعتبرها دوغين نوعا من المسودة السياسية الفوقية التي يمكن تطويرها. يرى دوغين أنّ هذا ما لم يفعله هيدغر ، ولكن نفهم أن دوغين يستنبط من هذه المسودة السياسية الفوقية نظريته السياسية الرابعة.
أدركت بدوري هذه الحقيقة، فالدازاين كما كتبت قبل سنوات، لا يقف عند حدود الجدل الميتافيزيقي، بل له امتدادات وآثار فيزيقية ما أنّ تهتز المركزية الميتافيزقية وتبرح الحيز الجيو-فلسفي، للميتافيزقا نفسها، بوصفها بتعبير دوغين هي يونانية في النشأة وألمانية في النهاية.
دعوى هيدغر لثورة ميتافيزيقية هي في مرتبة أخرى وبالتبع ثورة فيزيقية تمسّ الجغرافيا التي باتت بحكم الدازاين نفسه، جغرافيا سياسية. لكننا حينما ندرك جوهر الدازاين، نفهم الأثر الجيوستراتيجي والمصيري للفكرة.
ففي نظري، يوجد للدازاين امتدادا آخر، لنتحدّث عن الدازاين كحقيقة جماعية، مشروع جماعي تنبثق منه سياسة لمشروع دولة-أمّة، لأنّ الدازاين في حاجة إلى حماية مشروع انفتاحه على أنطولوجيا حقيقية. لكل أنطولوجيا رديف أيديولوجي. مصير العالم جيوستراتيجيا يتوقف على انقلاب في صميم ميتافيزقا الوجود.
إذن البعد الاجتماعي للدازاين، جودة الأنطولوجيا دفعا لزيف الوجود، الإقليم الذي من شأنه أن يشهد قيام الثورة الأنطولوجية. لكل هذا علاقة بما يبدو هنا وهنا فقط، عناوين في المرتبة الثانية: أسئلة الهوية، العدالة الكوكبية، التعددية الحضارية.
إنّ الصراع على الجغرافيا وفيها، هو امتداد للفكر. وسنجد أنّ دوغين نفسه بنى نظريته الرابعة على فكرة الدازاين، وقد عبّر عن تأييده لهيدغر بأنّ الأرض هي فكرة فلسفية.
ما يجري اليوم على المسرح الأوكراني يُعيدنا إلى نصف الحقيقة الهنتنغتونية، للقراءة السّيئة التي بادرت إليها الإنتليجونسيا العربية الرّثة، الدوكسا “المدقسة”، ثمّة صدع حضاري وجب أخذه بعين الاعتبار. نفهم من هذا أنّ المعركة خرجت من طور الحرب الباردة بمضمونها السياسي إلى الحرب الحضارية بمضمونها الثقافي، لأنّ روسيا التي وضعت حملها السوفياتي المتعدد، أدركت رسالتها الحضارية، حيث مؤسس فكرتها الجديدة: دوغين، يؤمن بالتعددية الثقافية ويرفض التفكير على أساس الدوكسا، حيث الفلسفة لديه أعلى من الأيديولوجيا.
لخّص دوغين كل هذا النداء الذي تبنته موجة ما بعد الحداثة نفسها، مع حذر شديد في الخروج من الحقيقة، وهي هنا ليس بمعناها الأيديولوجي، بل بالتمسك بالوجود، بما هو أسمى للنهوض بحركة تصحيحية ذات بُعد جيوستراتيجي.
العلاقة الأنطولوجية بالسياسة فائقة التعقيد. لقد أدركت القوى العظمى دور الفيلسوف في تشكيل الوعي الجيوستراتيجي، وتشكيل الأمّة من لحظة الأوْب الوجودي للدازاين. هربرت ماركوز، من قادة مدرسة فرنكفورت النقدية، والذي سيتولّى منصبا في مكتب الخدمات الإستراتيجية من 1943 إلى 1950 وهو الهيئة التي سبقت وكالة المخابرات الأمريكية، التلميذ النجيب لمارتن هايدغر ومعاونه، يبوح بما باح له به هيدغر ذات مرة، أي حول رفضه لديمقراطية جمهورية فلمار (قبل مجيئ هتلر)، بأنّ العيش في ظلها لم ينسجم مع رؤيته الوجودية، الأوضاع التي عاشتها يومها، بل العالم بأكمله يقول هربرت ماركوز يقع خارج وجوديته.
لنقل في النهاية، أنّ معضلة الجغرافيا السياسية لا تكمن كلها في طبيعة البيانات والخرائط والموارد، وهذا هو ظاهر المشكلة، لكن في مثل هذا النزاع العميق الذي يتشكل العالم الجديد على شروطه الظاهرة والخفية، تصبح مشكلة الجغرافيا السياسية ميتافيزيقية في جوهرها، ومنها تنبثق جميع الأحاسيس الأخرى التي تتعلق بالهوية وصدام الحضارات والتمركز والعنصرية. لنمسك بإشكالية الدازاين في صميم اللاّشعور الجغرافي.
كانت الحرب بين أمريكا وروسيا مستبعدة دائما؟ فما الذي جعلها تشتعل على مقربة من روسيا؟
إنّها بالفعل حرب حضارية تعطي أهمية للمقاربة الجيو-حضارية لهنتنغتون. فهذا الهيدغيري الروسي ألكسندر دوغين، يؤكد على العمق الأيديولوجي للعولمة والأطلسية، بوصفهما أيديولوجيتان للغرب المتطرف حسب قوله.
إن دوغين المعتز بقوميته دون إلغاء المكونات الحضارية لأوراسيا، سيهتدي إلى موقف تعززه الجغرافيا والثقافة، أي لا شرقية ولا غربية، وهو ما يجد في ما يتداوله الروس: أي لا شرقية ولا غربية ، فقط أوراسيا. يعتمد دوغين بل يدعوا للواقعية التاريخية، لما هو لنا وما هو غريب عنّا، بهذا دوغين يرسم خريطة جيو-ثقافية لروسيا المستقلة سياسيا وحضاريا، لا للغرب ولا للشرق.
وهذه نقطة تقتضي تأمّلا دقيقيا، فروسيا دوغين حذرة في موضوع الاندماج الحضاري ضمن الهويات الثقافية الشرقية قبل الغربية.لا يعطي دوغين أولوية للانحياز للشرق، بل في السياق الراهن يقودنا التفكير الجيوستراتيجي لانفتاح أو بالأحرى تجميع أكبر عدد من الوحدات الواقعة في الريملاند أو الحضارات الشاطئية لمواجهة التخندق الغربي.
أهمية ذلك من الناحية الاستراتيجية هو تقويض المركزية الأطلسية بمركزية أوراسية، تلعب فيها روسيا دور المركز بين الشرق والغرب، وهو من الناحية الجغرافية السياسية، يحقق تعاونا واستقرارا عالميا. دوغين يقدم مشروعا استراتيجيا لروسيا ولكنه دور يأخذ بعين الاعتبار التعددية الحضارية والإستقرار الدولي.
في الحرب الباردة كان تصريف الحروب وتهريبها إلى الأطراف، موقفا إجماعيا، حيث رسوخ المنظور العالمي للقطبين، وبالتالي خوض حروب تكتيكية في مناطق أخرى من العالم، كرس ما يمكن أن نسمّيه: احتواء الحرب العالمية الثالثة من خلال التوزيع الجيوستراتيجي للحرب، والقائم على ابتكار فكرة الوكلاء والمحاور الإقليمية.
حتى الآن كانت الحروب خارج نطاق الهارتلاند، حروبا بالوكالة، لكن ما حدث اليوم، أنّ روسيا تفكّر بشكل مختلف، لقد اكتشفت نظريتها الرابعة، كما أنها تخوض معركة وراءها انبعاث أوراسي لأقطاب بدأت تتحسس هوياتها المحلّية.
يتوقف مصير معركة تقع على حافة الحرب العالمية الثالثة على ما ستحققه روسيا في أوكرانيا. لا زال الغرب يعتمد على فلسفة كوجيف، على استراتيجيا الاعتراف، ولكن الخطأ هو أنّ ذلك جاء في سياق الحرب التقليدية أو الانفراد بالرعب، لقد انقلبت قواعد الاشتباك مع انقلاب مفاهيم القوة والحرب، لم تعد الحرب امتدادا للسياسة، بل السياسة نفسها باتت امتدادا لفكرة القوم والثقافة، لا محيص عنها..
تعليق واحد