
بقدر جبروت الثقافة وقمعها، بقدر عظم الارتداد، وحيث يخرج الإنسان تطبعه الثقافة المحليّة بختم لا يزول، أشبه بالحبل السري بدون سرة، ولكن الويل للقوة العاتية التي تتفجّر من مضادّ المادّة، وعبد الله القصيمي النجدي هو ذلك الارتطام بين المادة ومضاد المادة، والثقافة ومضاد الثقافة.
خرج الرجل من نجد شيخًا متدينًا أقرب إلى التعصّب فانغلق، وفي مصر انقلب إلى ملحد مارق فانفلق؛ على الأقل حسب مصطلحات الثقافة العربيّة الإسلامية، حين يضحك على نفسه والعربي والثقافة والنبي والملائكة والله والكعبة، وهي مقولات لا تقبلها قط الثقافة العربية بهذا الجموح وهذا الإفراط، وأنا شخصيًا أعرف التشدّد الموجود في نجد.
حيث مركز الزلزال في القصيم، وبقيت في القصيم من حيث خرج القصيمي ثمانية عشر عامًا مشرنقًا في قوقعة، تذكر بحالة النبي في غار حراء بين صخور صماء، أو تذكر بقصة كتابة العميان لبرايل، فهذا الشاب الذي انفقأت عينه بالمسلة وعمي بالالتهاب المضاعف، عكف على هذه الإبرة الثخينة وقال من هنا ينبثق السر، ومن رأس المسلة بنقشها على لوح الخشب وضع كتابة العميان باللمس.
وأنا من جو التشدّد الحجري ولدت عندي الأفكار كما ينبثق الماء من الصخر الصوان، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون؟
عبد الله القصيمي ظاهرة شاذّة ومبكرة في السوق الفكرية العربية منذ الستينيات، ولكن سره في انقلابه يحيط به الغموض، فبعد أن كان أزهريًا يكتب في (صراع الوثنية والإسلام) انقلب على عقبيه، ودار نصف الدورة إلى الاتجاه المعاكس؛ فكتب ردته بأحرف في غاية العنف والقسوة بعنوان (هذه هي الأغلال) فطلق الثقافة العربية طلاقًا ثلاثًا لا رجعة فيها ولو تزوجت وعادت؟
وبعد كتاب (هذه هي الأغلال) أعلن ردته ومن بلده هرب، يظهر ذلك واضحًا في رسائله المتفجّرة مع قدري قلعجي، والأخير أنشأ (دار الكتاب العربي) وتجرأ على نشر كتب هذا النجدي الثائر، بكل الكثافة السميّة وما حملت، فأصدر له سلسلة من قنابل فكرية بعناوين شتى (العالم ليس عقلاً) و(صحراء بلا أبعاد) و(أيها العار إن المجد لك) و(فرعون يكتب عن سفر الخروج) و(كبرياء التاريخ في مأزق) و(الإنسان يعصي لهذا يصنع الحضارات) و(العرب ظاهرة صوتية) و(هذا الكون ما ضميره؟).
وهي كتب غنيّة بالثقافة والحماس والمترادفات الإنشائيّة واللغة البليغة والاسترسال اللفظي، وفي وقتها كانت نموذجًا محركًا مدمرًا صاعقًا محرقًا، كذلك هي حافلة بالكفر العميق بالله والدين والثقافة والعقل العربي.
والرجل يذكر بـ (توماس كامبانيلا) ورسالته حول الإلحاد، كذلك بـ (جان مسلييه) الكاهن الذي خدم في كنيسة ثم كتب عهده الجديد على خفية من الرقيب ومخابرات الكنيسة وجواسيسها ومحاكم تفتيشها، خطها ببطء وبتأنٍ وبطول تفكير في هدأة الليل وترك منه ثلاث نسخ، لم يتجرأ حتى فولتير الجامح أن ينشر كتابه لكثافة الإلحاد الذي فيه، وحاليًا ينطبق هذا على القصيمي الذي تمنع كتبه حتى اليوم من الانتشار، في ضوء المحرّمات في الثقافة العربية.
تحدّث القصيمي عن الإنسان العربي فقال “العربي لا يكتب ولم يكتب إلا ما هو غباء أو جهل أو كذب أو نفاق، أو كل ذلك، أو ما هو شر من ذلك!!) (الرسائل المتفجرة ص 32)
بهذا التعميم والنفي لكل الثقافة العربية، مع هذا نبقى محظوظين، وهناك أمل في الثقافة العربية حين لم يستخدم حرف (ولن؟)..
أما حديثه عن الله والنبي فيقول: “ماذا يعني وجود الإله أو يساويه؟ قالوا وجود الكون. قيل لهم وماذا يعني وجود الكون الذي وجد الله من أجل إيجاده؟ (ص 30).
أو هذه العبارة الناريّة؟ ما أروع أن ينتصر الإنسان وأن ينهزم الإله والنبي والزعيم والسلطان؟
ربما ومن شدّة حنقه على الأوضاع أن غطى كلمة الزعيم والسلطان بالله والنبي وليس ثمة مبرّر، والله يقول هو من عند أنفسكم، ولكن القصيمي يصرّ إلا أن يمدّ يده ليضرب السماء بحجر، وهي تمدّه بالمطر، ولكنه نجدي قاسٍ عنيف ولا غرابة!
وأما كيف ردّ على صلاح المنجد الذي فضل الالتحام بالسلطة الزمنية ومطاردة أفكار القصيمي؛ فقد كتب عنه تعليقًا لاذعًا جدًا، وقال فيما قال إن الله والملائكة مجتمعون لتدارس كلمات المنجد وأن الملائكة يتعلمون هذا اللون من التهذيب على يد المنجد :”جميع الأنبياء والقديسين قد قرأوها وتعلموا منها قبل هداية البشر الصدق والنظافة والتقوى …..
ضمائر الملائكة لم تعرف مثل هذا التهذيب، آيات الكتاب المقدس لم تعرف مثل هذا، إن أدب الإله وتهذيبه لم يطمعا أن يكونا مثل هذا”، إنه بقايا الفكر الديني مقلوبًا، استخدام المقدّس في معركة شخصية؟
بل خلع مشاكله النفسيّة على المقدس؛ فهو يفسر الوحي أن الله في وحدته القاتلة والكآبة المسيطرة، كان لا بدّ له من مخاطبة البشر؛ فأرسل الرسل وأوحى بإذنه ما يشاء؟
والشيء الذي لم يخبرنا به القصيمي أن الوحي توقف، فكيف يعالج الرب نفسه بمضادات (الدبريشن) الكآبة (Anti Depression Drugs)، كذلك لم يفسر لنا ظاهرة الخلوة والجلوة عند الصوفيين والرهبان، بل وقول ديورانت أن الوحدة ألذّ شيء عند الملوك والقديسين.
وليس من نبي أرسل إلى بعد وحدة طويلة وخلوة عميقة مؤنسة، وليس وحدة معمورة بالكآبة القاتلة، كما هو حال القصيمي المسكين.. الذي كتب عن نفسه يقول: بائس قلبي… (ص 90) .. الوحيد في جحيمه (ص 140) أحسد الحشرات (ص 94)…. (بالمناسبة العناكب والقطط التي يحسدها لم تشكُ من الوحدة القاتلة) أدعو الكتاب إلى الانتحار (ص 97) مع ذلك لم يطبق ما قال ولم ينتحر، إلا إذا اعتبرنا ردته لونًا من الانتحار الثقافي؟ :”الله لم يحب البشر الحب المطلوب (ص 101) ؟؟
إنه رجل يحتاج إلى دراسة سيكولوجية في اتجاهين أو ثلاثة؟ الأول دراسته هل هو بسيكوباث؟ عفوًا مريض نفسي؟ فالأمراض النفسيّة منها الخفيف ومنها الثقيل ولا يعرفها حتى صاحبها؟ ونفس نيتشه العقل الجبار تراجع عقله وأصيب بالعته مع تقدّم العمر فكانت أخته إذا قرأت عليه ما كتب يقول كنت أكتب شيئًا من هذا القبيل؟ وكانط فيلسوف التنوير أصيب بمرض الزهايمر فلم يعد يعرف أقرب الناس إليه؟
الثاني دراسته .. أنه من نجد ثم الأزهر، حيث الثقافة المتكلسة المحنطة في متحف حي؟
والثالث دراسته كتأزم غير صحي في الفكر العربي، يحاول بشكل غير عاقل أن يحلّ الإشكالية، وهي الصورة التي رسمها لنا ديورانت وشبنجلر عن أزمة العالم القديم في القدس، في مواجهة التفوّق الروماني، ولم يكن كذلك، بل كانت ثقافة مهزومة، في وجه ثقافة أشدّ هزيمة.
كانت روما بعد معركة زاما وحرق قرطاج قد احترقت ثقافيًا، وماتت الجمهورية، وولدت الإمبراطورية المريضة.
وكانت الثقافة اليهودية هي ذلك الانشقاق بين الاتجاه الزيلوتي والهيرودوتي (المتشدّدون والإباحيون) وهي فصائل سجلها الإنجيل بثلاث فرق؛ الكتبة والفريسيون والصديقيون.