آراءسياسة

لكي تعود “القضية” إلى العرب !

وجب على الفلسطينيين والعرب أن يتأملوا جيداً ما أصاب إسرائيل من زلزال لا مثيل له منذ تأسيس الدولة عام 1948

تستفيد إيران من تداعيات ما ستنتهي إليه معركة “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري. الحركة حليف لطهران والجناح الذي يتحكّم بقطاع غزة بقيادة يحيى السنور ومحمد الضيف، هو الأكثر ولاءً لطهران. وإذا ما اختارت إسرائيل أنواعاً من المواجهة ضدّ إيران داخل سوريا وداخل إيران، فإنّ إسرائيل نفسها تستنتج بإفراط وقوف إيران وراء الحدث الجلل الذي أُطلق من غزة.

غير أنّ الحدث هو فلسطينيٌّ بامتياز، وهو في نتائجه يغيّر كثيراً من مفردات الصراع ويقلب كثيراً من مسلّماته. ولأنّ تحكّم ستاتيكو موازين القوى بالأداء الفلسطيني العام على مستوى منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وكل الفصائل، فإنّ انهيار الستاتيكو يفرض ديناميات فلسطينية جديدة، قد لا تكون المنظومة الحالية جاهزة لها.

والحدث هو أيضاً عربيٌ بامتياز لجهة استدراجه لمواقف صدرت عن العواصم العربية، لاسيما تلك الأساسية منها المنخرطة تقليدياً بالشأن الفلسطيني. ولئن يظهر إجماع عربي بشأن مسؤولية إسرائيل في الوصول إلى حالة التعفّن والتوتر والانسداد التي وصل إليه الفلسطينيون جميعاً، فإنّ العرب مدعوون إلى توفير غطاء سياسي واسع لمشروع حلّ يقوم دوماً على أساس مبادرتهم للسلام لعام 2002.

لن تستفيد إيران من شراكة في مآلات السلم والحرب في المنطقة، خصوصاً في شأن النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، إلاّ إذا تخلّف الفلسطينيون بكل مشاربهم والعرب ببلدانهم كافة عن ملء الفراغ الذي أتاح لإيران أولاً وتركيا في مرحلة لاحقة، تقديم واجهات دعم واحتضان ورعاية لمسألة لطالما كانت حتى وقت متأخّر “قضية العرب الأولى”.

وجب الاعتراف، أياً كان تقييم عملية “طوفان الأقصى” وأياً تكن الأجندات المحلية أو الإقليمية التي تقف وراءها، أنّ المسألة الفلسطينية استعادت زخمها واسترجعت أولويتها داخل المشهد الدولي العام. خُيّل للجميع، حتى لنا جميعاً، أنّ كوارث العرب إثر “الربيع العربي” وانهماك العالم بمواجهة جائحة كورونا ثم التعامل مع الحرب في أوكرانيا وتصاعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين، جعلت من فلسطين وقضيتها شأنين هامشيين منسيين. حتى أن “القضية” دخلت في قاموس الرتابة وخرجت من منزلة الصراع وانحدرت إلى درك “إدارة الصراع” وفق المفهوم الذي ران على العقل الاستراتيجي الإسرائيلي خلال العقود الأخيرة.

وإذا ما أخرجت المنظومة الغربية بزعامة الولايات المتحدة إثر انطلاق “طوفان الأقصى” مخالب انحياز جلف للرواية الإسرائيلية وتبنٍّ كامل للمظلومية الإسرائيلية، فإنّ في ثنايا الأمر اندفاع اللحظة الذي يشبه ذلك الذي ظهر فوراً بعد ساعات على اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ولأن تحتاج إسرائيل إلى كل هذا التضامن الغربي للتعويض عن الزلزال الذي أصابها في يوم 7 تشرين الأول (اكتوبر) الجاري، فإنّه وجب عدم نسيان الموقف الغربي، لاسيما الأميركي بالذات قبل الحدث، والذي وصل إلى حدّ ما يشبه القطيعة بين إدارة الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة وحكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل.

وجب التذكير أنّ القضية الفلسطينية عادت إلى الطاولة الدولية قبل أشهر من “طوفان الأقصى”. حتى أنّ واشنطن انهمكت في توفير بيئة فلسطينية تسهّل إبرام اتفاق تطبيع في علاقات السعودية وإسرائيل. جعلت الرياض المسألة الفلسطينية شرطاً موضوعياً وبنيوياً حاسماً للانخراط في الجهود الأميركية الهادفة إلى توقيع اتفاق تاريخي تطمح إدارة بايدن إلى جعله إنجازاً يُحسب للرئيس في حملته الانتخابية لرئاسيات 2024.

وفيما تدافعت الآراء لاتهام عملية “طوفان الأقصى” بأنّها ورشة إيرانية تسعى للانقلاب على قطار التطبيع العربي- الإسرائيلي والسعودي- الإسرائيلي خصوصاً، خرج البيان الذي صدر عن وزارة الخارجية السعودية بعد ساعات على بدء تلك العملية، ليعيد التذكير بالموقف السعودي التقليدي الرسمي، ويعيد وضع النقاط نفسها على الحروف نفسها، سواء في التحذير من “مخاطر انفجار الأوضاع نتيجة استمرار الاحتلال، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضدّ مقدّساته”، أو في تجديد الدعوة للمجتمع الدولي بـ”ضرورة إنهاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني بحل الدولتين، بما يحقق الأمن والسلم في المنطقة ويحمي المدنيين”.

سيدفع قطاع غزة ثمناً باهظاً سبق أن دفعه مراراً في محاولة لاستعادة إسرائيل هيبتها واسترجاع ثقة الإسرائيليين بقوة جيشهم. لكن ذلك لن ينهي الصراع، بل في المقابل ينهي بلادةً داخل النخب الفكرية والسياسية الإسرائيلية كما داخل المجتمع الإسرائيلي بالذات. توقفت إسرائيل عن إنتاج تعددية فكرية بشأن مستقبلها في المنطقة واكتفت بإلغاء ورش السلم منذ اغتيال اسحق رابين عام 1995.

راح الناخب الإسرائيلي يقذف بأطقم اليمين وأقصى اليمين نحو الحكم بداعي الحزم للتعامل مع الأخطار الوجودية الأمنية. قيّض للكتلة الناخبة أن تحمل إلى الحكم في آخر انتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 أقصى أنواع الفاشية والعنصرية التي سبقت عتاة اليمين التقليدي (من اسحق شامير إلى آرييل شارون) في قوميتها وتطرّفها ومقتها لأي تسوية مع الفلسطينيين.

وجب على الفلسطينيين والعرب أن يتأملوا جيداً ما أصاب إسرائيل من زلزال لا مثيل له منذ تأسيس الدولة عام 1948. ولأن فشل التطرّف في حماية أمن إسرائيل، فإنّ المنطق أن يبدأ العقل الإسرائيلي بالبحث عن بدائل من خارج صندوقه المفلس. وجب تأمل كّم المقالات (حاييم ليفينسون في الهآرتس مثالاً) التي صدرت في إسرائيل، تمارس نقداً ذاتياً وهجوماً على نتنياهو وجوقة اليمين المتطرّف حوله. وإذا ما يوفّر الحدث احتمال بيئة لمباشرة منافذ حلّ، فإنّ العرب والفلسطينيين وحدهم مؤهلون لالتقاط اللحظة التاريخية التي تمنّ إيران وغيرها النفس للإمساك بها.

يقول نتنياهو، إنّ الردّ الإسرائيلي ضدّ “حماس” سيغيّر الشرق الأوسط. والأدقّ أنّ التغيير قد بدأ فعلاً بعد ساعات من بدء “الطوفان”. صحيح أنّ شكل هذا التغيير ما زال ضبابياً، لكن ولكي لا تتغيّر المنطقة باتجاه بوصلة إيران أو إسرائيل، فإنّ لديكتاتورية الجغرافيا قواعد وشروطاً تُفرض على قطاع غزة وعلى من يحكمه الإذعان لأحكامه.

فمهما تكن درجة تحالف “حماس” مع إيران فإنّ ملاذها الجغرافي هو مصر وما تمثّله من امتدادات داخل العالم العربي. تعرف طهران ذلك جيداً، وهي مدركة أنّ “القضية” هي عربية بامتياز، ومآلاتها تنحو نحو شواطئ العرب مهما ضاعت البوصلة وشرّدت اتجاهاتها. فقط وجب على العرب أن يعيدوا تأكيد هذه المسلّمة، وينهوا انخراط الآخرين في “قضيتهم”.

https://anbaaexpress.ma/bhgju

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى