آراءمجتمع

فلسفة الهجرة

الفيلسوف ديكارت.. من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده

إجتمعت بصديقي أبو محمد وهو يعمل في اصلاح الحدائق فأخبرني عن عزمه على مغادرة الوطن إلى أمريكا بعد ان إنتظر التأشيرة ثماني سنوات.

أحزنني بعض الشيء وصوله الى هذا القرار ولكن هل هي مشكلة هذا الرجل فقط، أم هي أزمة وطن واختناق ثقافة بعد ان تحول الوطن الى طائرة مخطوفة والمواطن الى رهينة والمستقبل الى نفق مسدود؟

المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة بل ثلاث: فالذين ذهبوا الى الغرب اصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء فقد دخلت الزوبعة الى حياتهم الى أجل غير مسمى. ولعلها ستبقى ترافقهم مثل الحمى المالطية حتى نزع الروح، ويقول المثل الشركسي: من يخسر وطنه يخسر كل شيء.

حتى يجد وطنا جديدا لن يكون وطنا. وعندما عرض على (فيرنر هايزنبرغ) الدماغ الفيزيائي صاحب نظرية الارتياب في ميكانيكا الكم الهجرة الى امريكا كان جوابه: انه قرار يجب ان يحسم في عمر مبكر.

فمن نشأ في ثقافة بعينها حتى عمر معين تصبح تلك البيئة له أكثر الاوساط تأثرا منها وتأثيرا فيها. كان جوابه: سأرجع الى ألمانيا حتى اذا انهدمت المدن الألمانية قمت بتربية جيل ما بعد الكارثة. وهو الذي حصل عندما دشن معهد ماكس بلانك في فروع لا نهاية لها من العلوم.

والمشكلة الثانية ان من هاجر وإحتك بالحضارات الأخرى يصل الى وضع لا يحسد عليه، فلم يعد الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده، فهو نفسيا في الأرض التي لا اسم لها.

ومن أجمل ما قرأت نقلا عن مهاجر الماني ما معناه ان الذي يرى وطنه جميلا فهو لا يفهم الحياة، ومن شعر بالغربة في الهجرة فهو غير ناضج، ولكن من شعر بالغربة في كل العالم فهو المواطن الصالح، يقصد بهذا ان وجودنا في الأرض كله يقوم على التوقيت والاعارة وأننا البشر من التراب واليه نعود.

وهذا يقرب الى وعينا صدى تلك الجملة العميقة التي نطقها المسيح عليه السلام: مملكتي ليست من هذا العالم.
انهم يعيشون العالم السفلي وحلمهم معلق في عالم لم يولد بعد.

إنه قرار مصيري، لكنه يبقى معاناة أفضل من المعاناة في وطن تحول الى سجن كبير بدون أمل في الافراج، مثل حكم الاعدام المؤجل. وما زلت اتذكر يوم 13 يناير 1975 وأنا في طريقي مهاجرا الى ألمانيا الغربية. عندما نشبت معركة حامية الوطيس بين اثنين من الركاب على المقاعد.

وفي الليلة الاخيرة قبل مغادرة البلاد كانت ليلة الفندق مرعبة بين قرقعة الصنادل الخشبية وصراخ مغنية مجنونة قد استولت على حواس صاحب الفندق فسهر على صوتها حتى مطلع الفجر، وعندما تجاوزت الحدود خررت لله ساجدا على نعمة الحرية.

وكانت هذه آخر ذكرياتي من العالم العربي فودعت حضارة الصخب والفوضى والخوف وتلوث الحواس رؤية وسماعاً وشماً. وهبطت مطار نورمبرغ الألماني لاستقبل حضارة النظافة والنظام والأمن.

ويعتبر قرار الهجرة ثالثا من أصعب وأخطر القرارات في حياة الانسان، ولعله يكون طريقا باتجاه واحد. ومشكلة الغرباء انهم يبقون غرباء لفترة طويلة، وقد تدوم هذه الغربة مدى الحياة. وعلى من يتخذ قرار الهجرة ان يتذكر ثلاثة أمور: انه قرار لا يتعلق به وحده بل ذريته من بعده.

ثانياً انه قد يكون هجرة بغير عودة. وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت ان من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده.

وأرجع الى صديقي أبي محمد قلت له ما دافعك الى الهجرة. قال لي أمورنا تمشي الى الخلف وحياتي انتهت وأنا أريد مستقبلا لأولادي.

الهجرة ظاهرة كونية مثل الوحي، فكما أوحى الله الى انبيائه روحاً من أمره، كذلك أوحى الى (النحل) ان اتخذي من الجبال بيوتا. وأوحى الى (أم موسى) ان ارضعيه،كل بطريقته الخاصة.

ولا يهاجر الانسان فقط بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات. ويهاجر الرجل والمرأة الى عش جديد لتوليد عائلة جديدة. فهذا قانون وجودي.

الطيور تهاجر تبحث عن الحب. وسمك السلمون يهاجر في ملحمة رائعة من نهر فرايزر في كندا ليقطع رحلة عشرة آلاف كيلومتر حتى المحيط. وتغادر الفراشات (الملكة) شمال امريكا لتصل الى امريكا الجنوبية فتتبدل خلقا من بعد خلق. ولكن هجرة الانسان غير هجرة السمك والطيور فهي حركة ثقافية.

وحسب فيلسوف التنوير الألماني (كانت) فقد كانت الهجرات تأريخا للاضطهاد السياسي، من خلال الانشقاق المتتابع في الجماعات الانسانية، وبذلك زحف الانسان في الارض من شرق افريقيا حتى جنوب امريكا في رحلة امتدت على مدار 200 ألف سنة. فكان الاضطهاد في طرف منه خيرا في انتشار الانسان في الارض.

ونعرف اليوم أن هجرات الجنس البشري عبرت مضيق بهرنجر قبل 12 ألف سنة وتابعت زحفها حتى مضيق ماجلان وأرض النار.

وحسب المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) فالهجرة صيرورة تنطبق ايضا على الانبياء والمعتقدات من خلال قانون (الاعتزال والعودة). وبذلك هاجرت البوذية من نيبال في الهند واستقرت في الصين وتركت المسيحية فلسطين وزحفت الى روما.

وفي مسيرة (ماوتسي تونج) مشى معه مائة ألف من اتباعه الى شمال الصين ما عرف بـ(المسيرة الكبرى). بعد ان اجتاز عشرات الأنهار وسبع سلاسل من قمم الجبال لينشئ جمهوريته الأولى في ينان بأربعة آلاف انسان. بعد ان قتل اكثرهم على يد الكومنتانغ.

والسؤال ما الذي يدفع الانسان الى الهجرة، فيترك مراتع الطفولة وأحب الأماكن الى قلبه، كما وصف ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يجبر على مغادرة مكة عندما ائتمروا على قتله وتفريق دمه بين القبائل؟

إن شعور الفراق الابدي الذي استولى على (هرقل) كان حزينا وهو يغادر دمشق بعد الفتح الاسلامي ويقول: «وداعا يا دمشق.. وداعا لا لقاء بعده». وهي نفس الجملة التي يكررها اليوم فارو اللجوء السياسي من بعض بلاد العرب الى الارجنتين والدومينيكان والسويد. قد يحمل نعش أحدهم الى الوطن كما حصل مع نزار قباني فيدفن فيه. ولكنه لم يعد وطنا للحياة بحال. فهو وطن الاحياء الاموات. والموتى فيه يدفنون.

لماذا قال ابراهيم عليه السلام هذه الجملة: اني مهاجر إلى ربي؟

يعتبر ابراهيم عليه السلام المهاجر الأكبر فهو الذي ترك بلاد الرافدين ووفرة المياه وخضرة النيل ليأوي الى واد غير ذي زرع عند بيته المحرم. فالصحارى مع الحرية اطيب من الاستبداد مع الجنان.

وهناك أقام القواعد من البيت في بيئة صعبة هو واسماعيل ربنا تقبل منا، وهناك دعا ان لا يجعل في ذريته من يعبد الأوثان، كان هذا بعد النقاش المرير مع النمرود في العراق الذي زعم انه يحيي ويميت، وبعد نجاته من النار فكانت بردا وسلاما عليه، وبعد ان واجه فرعون مصر الذي طمع في زوجته الجميلة سارا.

ترك كل ذلك خلف ظهره ليأمن على ذريته في ارض غير ذي زرع، لأن أعظم زرع هو الانسان في مناخ الحرية. ومع الديكتاتورية لا أمان ولا ضمان لأي شيء. وفي جو الاستبداد تقتل الحياة قتلا.

وهاجر فتية أهل الكهف فرارا من الاضطهاد السياسي ومعهم كلبهم، فبيئة مدمرة من هذا النوع لا تطيقها الكلاب ولا أمان فيها للطير والحيوان.

وفر موسى عليه السلام بدوره من جو الحضارة الفرعونية المقيت التي اعتاد أهلها أكل البصل والثوم مع الاهانة والاذلال الى صحراء مدين ليتزوج هناك ويعيش، ولم يرجع الى مصر الا برسالة، ولم يكن له ان يعيش قط في بلد يرفع القبور لأشخاص فانين على هيئة اهرامات تناطح السحاب في مناخ ميت مميت من الديكتاتورية.

قد يكون موسى نجح قديما في الهجرة بشعب كامل يشق بعصاه البحر فكان كل فرق كالطود العظيم. ولكن مشكلة الهجرة اليوم تتحول الى قضية دولية بزحف نصف الشعب السوري الى القارات السبع.

مع ذلك فلا يمكن لشعب ان يهاجر أو يهجر بكامله ولو أراد أو أريد له. ولكن من يهاجر في العادة رغبة هم زبدة القوم وأكثرهم فعالية فيتبخرون الى سماء الرأسمالية مثل الماء ويبقى في الاسفل مثل طحل القهوة من كتب عليه الشقاء والبلاء والغباء.

وجرت العادة ان أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج فمع طوفان نوح تطهرت الأرض. ومع هجرة كولمبس تقرر مصير الغرب وإنقلبت محاور التاريخ وانتقلت الحضارة من المتوسط الى الاطلنطي.

https://anbaaexpress.ma/gwllj

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى