حين تجتهد وُسع النّظر بحثا عن المشترك الإنساني، فيتراخى الآخر، ويرى أنّه غير معني بأي مشترك من هذا الضّرب، فهو مؤشّر على خلل في تدبير المفهوم، عن علاقة ملتبسة بين النّظر والعمل، وهي مناورة تجد مَدْرَكَها الأمثل في جزيرة الكنز، وتحديدا في إفلاس “بن غام ” بعض الظفر بقسط من الكنز وعودته إلى وضعية البؤس.
ثمة وحوش في هذا العالم بيننا، يخفون أنيابهم خلف المفاهيم الكبيرة. عقولهم تناور بالأفكار، وقلوبهم ضارية. بين التمسرح العقلاني والتوحش العميق، تُصبح الازدواجية فنّا، ولكنه فنّ يتطلب تمكينا.
ولم يعد التوحش بدعا في عصرنا، حين تدهور الغرب السياسي وانقلب على المبادئ الكبرى للتنوير، وحاصر الحداثة في مسار لا حِوَل عنه في اتجاه التصنيع والوضعانية والتوحش الليبرالي. كبرت أنياب الليبرالية المتوحّشة، وأصبحت تهديدا لكل قيم التنوير والحداثة.
يرتدّ الغرب السياسي، إلى ما قبل الحداثة بوسائل الحداثة أمام هدير المفاهيم الكبرى التي يحتجّ بها الثّالثي، يجد الغرب في انحطاطه الإمبريالي نفسه أمام خيار واحد
افتعال التجاهل وعدم الإنصات، ومُغالطة التكرار هو اليوم فشل في أن يقدم نفسه نموذجا، بل هو فقط كتلة قويّة بمناوراتها وما أبدعه مؤسسوا أفكارها الكبرى، قوية بالموارد الطبيعية للمحليين، باحتكار الحداثة وقواها، بإدارة للاقتصاد العالمي وفيّة للميركونتيلية، بعلاقات دولية قائمة على عنف دارويني وتصنيفي، بمخيال الأناسي المستذئبة.
لقد بات الغرب نفسه خطرا على الحداثة، بل هو يرسم أفقا للاستقالة في ظلّ انبعاث القطبيات التي استوعبت قوة الحداثة، وقد تتقدّم فيها أشواطا إذا كفّ الغرب عن التشويش أو الابتزاز باسم الحداثة. لقد تجاوزت الأمم صدمة الحداثة وباتت تتربّص بها في موقف برومثيوسي.
ما بعد الحداثة هي في نهاية المطاف تشريح عميق لجسد الحداثة فيما آلت إليها، وتشخيص لبثورها وجراحها، والتحليل النفسي لعُصابها. إنّ الغرب السياسي تحوّل إلى قرصان، وهو يتحمّل ضريبة انكفاء أمم كثيرة، كما أنّه بات يرسم خرائط تخلفنا، ويراقب بيانات تقدّمنا، في لعبة دومينو لا يخلوا منها مجال.
يرى الغرب اليوم ، باستثناء الأوفياء لقيم العدالة والتحرر، أنّ ما يحصل في غزّة هو دفاع عن النفس يقوده احتلال صُنع في شروط إمبريالية، ضدّ أبناء الأرض المحليين.
يريد الغرب السياسي الذي يهيمن عليه الرأسمال ومجموعات المصالح والجهل الفلسفي بروح التّقدّم، أن يحافظ على جمود الحضارة المعاصرة، حماية امتيازاتها بالشطط ، عسكرة الحداثة نفسها حيث لم تعد حداثة ابتكار المفاهيم الكبرى، بل باتت حداثة ترسم المسافة بين حداثتين:
حداثة السادة وحداثة العبيد
لا مخرج لمعضلة العالم إلاّ بمشروع حضاري، تتوافق عليه السيرة العُقلائية الكونية، إنقاذ الحداثة من قراصنة جزيرة الكنز، استعادة ممكناتها، فالبشرية كلها متضررة من هذا الانحطاط والانسداد. وسوء الفهم الكبير الذي تعزز وسائل التأثير والتّآمر على الدّماغ البشري، هو أيضا سيتفكك بقوّة الملل من التّفاهة ونظامها العالمي. العالم اليوم في حالة انتفاض، والقلق بات وباء جماعيا.
الغرب الحر المتضرر من هيمنة أباطرة السياسة، الذين صادروا المسار الطييعي للحداثة، هم اليوم معنيون بخلق جبهة مقاومة عالمية ضدّ هذا الجمود في العقل وفي أنماط الإنتاج والاستهلاك.
لقد أصبح الغرب السياسي عائقا ضدّ ممكنات الحداثة، غلب الـ(Homo economicus) على الـ(Homo Sapiens)،وبات من الضروري والمُلِحّ أن ينبعث الـ(Homo Ludens)، حيث حاجة الحضارة إلى تغيير قواعد اللّعب، اللعب المضاد. يحتاج الفريق المناهض للجمود، أن يختار محترفين من خارج الغرب، فإنقاد فكرة التقدم يجب أن تكون كونية.
والهامش الناهض هو رصيد كبير لحضارة المستقبل. اليوم كلّنا مزودون بممكنات الحداثة، تلك التي نزع بها الغرب السياسي إلى حالة من التجنيس والمركزية، بينما قِوَام كونية الحداثة، أن تكون مسؤولية الشمال والجنوب.
الحرب الحضارية إن كان ولابدّ منها، فهي كونية، حرب الحداثة بين سادتها وعبيدها، بوسائل حديثة، حداثة ضدّ الحداثة.
روح الحداثة طائر الرام الدائم الإنبعاث ، شكرا على هذا المقال الذي ينبه الى القراصنة الجدد .
روح الحداثة طائر الرخ الدائم الإنبعاث ، شكرا على هذا المقال الذي ينبه الى القراصنة الجدد .
اترك تعليقاً