آراءثقافة

لماذا يؤمن الناس ولا يلحدون

ما هو الإيمان؟ ما هو العلم؟ وهل يمكن المزج بينهما ؟ لابد إذاً من تعريف كليهما. ذكر القرآن هذا المزيج مكرراً في موضعين: بالإيمان والعلم يرتفع الإنسان وبهما يصل لليقين: “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”. وقال الذين أوتوا العلم الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون”.

أعجبني تعريف الدكتور (محمد كامل حسين) في كتابه (وحدة المعرفة) لفكرة تطابق النظام العقلي والكوني لتعريف العلم فقال (في الكون نظام وفي العقل نظام والمعرفة هي مطابقة النظامين. والنظامان من معدن واحد. والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه.

ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة. ولو لم تكن المطابقة بينهما ممكنة ما علم أحد شيئاً. وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضاً يحتاج إلى برهان بل هو جوهر إمكان المعرفة. ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها.

وهذا الإنكار خطأ يدل عليه ما حقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية. ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين كانا مختلفين. ومهما تغيرت المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون فإن الحقيقة التي تثبت ثبوتا قطعياً هو هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل).

هل يمكن أن نخرج بعجينة من العينتين الإيمان والعلم؟ أو وهو الأفضل هل يمكن كتابة معادلة رياضية كما في علاقة الطاقة بالمادة؟ بحيث يمكن تحويل أحد الحدين إلى الآخر فتصبح الطاقة تحولاً كمياً مذهلاً لكم محدود من المادة، أو بالعكس تصبح المادة تكثفاً فلكياً للطاقة؟

هل يمكن أن نرسم معادلة يتوحد فيها العلم الإيمان فيصبحان كلاهما وجهان لعملة واحدة أو طرفان لمعادلة مشتركة أو تجليان لحقيقة أساسية واحدة ؟ أمامنا أحد عشر فكرة لشرح الموضوع؟

(أولاً) الإيمان ليس معرفة باردة بل حالة نفسية تتحرك في مخططات لا تعرف الراحة؛ فقد تمر علينا في اليوم الواحد لحظات من القنوط الكافر، كما قد ننتعش بلحظات رائعة من الإيمان المحلق فهذه ميزة للإيمان.

وعندما وصف (مالك بن نبي) في كتابه (وجهة العالم الإسلامي) مصلحاً اجتماعياً وهو يستخدم القرآن وفق شروطه النفسية قال (إنه لم يكن يفسر القرآن تفسيرا بل كان يوحيه إلى الضمائر فيزلزل كيانها. فلم يعد القرآن على شفتيه وثيقة باردة أو قانونا محررا بل كان يتفجر كلاما حيا ونورا يشع من السماء فيضيء ويهدي ومنبعاً للطاقة يكهرب إرادة الجموع؛ فالرجل لم يكن يتحدث عن (ذات الإله) كما صورها علم الكلام بل (الفعال) في حياة الناس والحقيقة القرآنية هنا يتجلى أثرها في الضمير والحياة اليومية أكثر من النقاش في الذات والصفات).

وكان عيسى بن مريم يخاطب الجموع “كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين” وكان يكلمهم بأمثال قائلاً هوذا الزارع قد خرج ليزرع فبعضه سقط على الطريق وإذ لم يكن له أصل جف فلما طلعت الشمس احترق، ومنه وقع على الأرض فاختطفته الطيور، ومنه وقع بين الشوك فلما طلع اختنق، ومنه وقع في الأرض الطيبة فأخرج مائة وستين وثلاثين.

كان يسوع يقرب الأفكار المجردة بقصص واقعية تدب فيها الحياة ولكن هناك من يريد أن يسحب منه كل حيوية وحياة فلننتبه.

ما ينقص العالم اليوم ليس المزيد من كثافة المعلومات فالكون رائع ومعقد وغامض ومبرمج وخلفه عقل مطلق، وما ينقصه حرارة الإيمان والتربية الروحية، ما ينقصه هو مزيج العقلانية مع التصوف. بعيدا عن اغتيال العقل عند شيخ طريقة فمن قال لشيخه لا لم يفلح، والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل، والمريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين. ما نحتاجه وثبة جديدة في الروح.

إن عيسى بن مريم أراد أن يقول للتلاميذ في مثل الزارع الشيطان يخطف القلوب كالطير تأكل الحب، والمحنة والاضطهاد تذهب بالإيمان السطحي، ومن يتورط في وهم العالم وغرور الغنى سيختنق في شوك الحياة، ومن يجد البيئة المناسبة سيعطي ثمراً رائعاً فلنتعلم من حكمة المسيح أين نلقي بذورنا؟

(ثانياً) يعتبر الإيمان منبعاً للطاقة لا ينضب فمع كل انهيار نفسي يلجأ الإنسان إلى هذا الخزان الكوني المطلق فيملأ طاقته ويشحذ همته لتحمل الصدمات والألم والمعاناة بما فيها صدمة الموت.

(ثالثاً) يشكل الإيمان آلية تخلع معنى على الحياة وبدون هذا يركبها العبثية التي تقود إلى التفاهة والانتحار أحياناً الذي هو بتعبير مختلف تقديم الاستقالة من الحياة فليس فيها ما يستحق أن يعيشها الإنسان.

(رابعاً) الإيمان محبة ومشاركة مع الخالق العظيم وكائناته وهذا يعطي دفعاً هائلاً لتقدير الحياة والتمسك بها والمحافظة عليها والتواصل بها مع الآخرين فتوفر جواً من السعادة لا ينضب. إن هذا لرزقنا ماله من نفاد، وما عندكم ينفد وما عند الله باق.

(خامساً) الإيمان يوسع نافذة الرؤيا فيصبح الإيمان باليوم الآخر وملائكته مطاً للشعور الإنساني أن الوجود ليس فقط ما يصل إليه بحواسه، وهذا يرفع الشعور إلى مستوى القداسة ويجعلنا نفهم الحياة أنها اكبر بكثير مما يتصور الواحد؛ فيخلع رحابة غير عادية على الوجود وراحة للروح أن هناك قوة مطلقة لانهاية لحكمتها وعدلها ورحمتها اللطيف الخبير لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

والإيمان (سادساً) يزيد وينقص في مؤشر لا يعرف التوقف طالما كنا نمارس الحياة وهذا يستنفرنا أن نشحذ هذه الآلية التي يمكن أن تصل إلى أقصى درجات التوتر والنقاء أو أن يخالطها لَبَس فتخسر الأمن فتصبح الحياة معها ضنكا (الذين آمنوا ولم يلبسوا لإيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). ومن هذه الأية من سورة الأنعام نرى أن الأمن الاجتماعي هو رصيد العدل؛ فحيث العدل وجد الأمن، ومن خزان الأمن تنبثق الحريات مثنى وثلاث ورباع.

والإيمان (سابعاً) يغير السلوك ويفيض على المشاعر فيكسو تعبيرات الوجه مسحة ملائكية نورانية (سيماههم في وجوههم من أثر السجود) أو بالمقابل عندما وصف الله المجرمين الذين يعرفون بسيماههم فيؤخذ أحدهم بالنواصي والأقدام، كما وصف الأمراض النفسية أنها تنكشف من تعبيرات الوجه المحضة فتقرأ بلغة جديدة بدون صوت بلغة السيمياء (ولو نشاء لأرينكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول). أو الآية التي تقول فيومئذ لايسأل عن ذنبه أنس ولا جان؟

و(ثامناً) يعد الإلحاد حالة لا تطاق والإيمان ضرورة نفسية.روى هذا بشكل واضح (جيفري لانج) في تجربته الروحية عندما كان مسيحياً فطلقها فأصبح ملحداً ثم تحول بعد ذلك إلى الإيمان وعرض تجربته مع القرآن والمسلمين في كتابه (الصراع من أجل الإيمان) عندما اطلع على القرآن الذي وصفه أنه يقوم بتحليل نفسيتك فقبل أن تبدأ في عرض مشاكلك عليه يقوم بمفاجأتك باطلاعه على خبايا النفوس من شكوك وإشكالات، وبقدر ما كان القرآن له محلقاً هادياً منيرا بقدر ما كان المسلمون يفاجئوه بعاداتهم على أنها الإسلام.

و(تاسعاً) الإيمان أمل دائم والكفر يأس مقيم والقنوط ضلال مبين.

و( عاشراً ) يفتح الإيمان منافذ الفهم، والكفر يسدل الستار على الحواس ويغلق منافذ الفهم والاتصال بروح الكون وقوانين الطبيعة. من هنا استخدم القرآن لفظ الكافر بمعنى الزارع في سورة الحديد (كمثل غيث أعجب الكفَّار نباته) وليس الكافر تحديداً كما هي في المصطلحات الشرعية.

والإيمان (حادي عشر) هو مشكلة اجتماعية سياسية فالتوحيد ليس مسألة ثيولوجية غيبية بل أرضية سياسية.

وهو تأسيسي مجتمع أفقي لا يتخذ الناس فيه بعضهم بعضا أربابا من دون الله. وهو ما حققه الغرب سياسيا إلى حد كبير، وغرق في وثنيته العالم الإسلامي فهم يعبدون زعمائهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل.

إن الدين يريد العدل وبقدر تحقق كمية العدل بقدر اقترابه وابتعاده عن الله فهذه حقائق الأشياء. ولو رفع المجتمع مظهر الإيمان بدون حقيقته أذله الله في العالمين كما هو ذل العالم الإسلامي اليوم؛ فبعد أن أذل الحاكم الأمة وعبدته مائة بالمائة كما في نموذج صدام المصدوم في الانتخابات المزورة فلم تكن 99 بالمائة أو 97 أو 95 بل جاءت هذه المرة مائة بالمائة وهذا يعني أن انتقلت الأمة إلى الصفر المطلق فسلط الله عليها من الأمم بعد أن فقدت التوحيد وعبدت الأصنام البشرية وهي الحالة التي تنص على ضياع (حقيقة) التوحيد السياسي مع المحافظة على (مظهر) باهت من الإيمان عند قوم لا يعقلون ولا يفقهون.

إنها حقائق موجعة ولكن لا نعترف بها.

و(أخيراً) هناك علاقة جدلية ما بين الطقوس والإيمان واجتماع الناس، وكل دين له طقوس تخصه فيجب أن لا يعيب أحد على أحد كما تذكر النكتة أن بريطاني أنكر على صيني أن يضع طعاماً على قبر ميت: هل سيقوم فيتناول هذا الطعام؟ أجاب الصيني بابتسامة هادئة: وهل عندما تضعون أكاليل الورد والزهور يقوم الميت فينتعش بروائحها ويشمها فهذه مشكلة العمى الثقافي والرؤية الانتقائية؛ فهذه اثنا عشر كوكباً من الأفكار في الإيمان وجدليته.

https://anbaaexpress.ma/5ibn4

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى