أرض جرندة الاسبانيّة، هذه المدينة الهادئة الممتدة على حدود الباسك الفرنسيّة، أرض بحضارة وعمق، أزهرت في الحادي عشر من شهر مايو من سنة 1904 أحد أنوائها، سلفادور دالي، ووافته المنيّة في الثالث والعشرين من شهر يناير من عام 1989 بمقاطعة كاتلونيا، حاضرة العلم والمعرفة في تاريخ الأندلس البهيّ.
هذه المقاطعة كما نعلم نادت في الأعوام المنصرمة وبتحدي بالتحرير من الدولة الأم إسبانيا، فهو شعب له لغته، ثقافته وتاريخه الشامخ.
يعتبر هذا العبقري من أهم فنانيّ القرن العشرين على الإطلاق وهو أحد دعامات المدرسة السريالية التي أثرت وأثَّرت في موضوعات الفنّ في تلك الحقبة. تميز في أعماله بالتفرد والغرابة والاستثنائية، فجاءت أعماله صادمة الموضوعات، غريبة التكوين وفريدة المزج تعكس تماما تموّر دواخله المتأججة المضطرمة بأحاسيس شبه جنونيّة.
عُرف بكتاباته المتعددة وغرابتها، لا سيما في سيرته الذاتية التي سطرها بنفسه، إذ كانت غير مألوفة للذوق السائد آنذاك، فكانت تصل بعنفوانها إلى حدود اللامعقول فتعكس حينئذ نفسيته الهشة وشخصيته الاستثنائية المتباينة عن “المين ستريم” وذلك يرجأه النقّاد إلى حالته النفسيّة المتأرجحة ومرضٍ داخلي لازمه طيلة حياته.
نجد المثل القائل بأن “الجنون فنون” ينطبق عليه عند تحليل شخصيته وعلى لوحاته بالتمام والكمال. إذ يتبدى ابداعه فوضويّ، عابث، غير منتظم وفوضويّ لأولئك الذين تمرّسوا وتتلمذوا بمدارس الفنّ الكلاسيكي، فنّ مجنون، نرجسي، صارخ، فاضح، رغم ذلك عظيم في أبعاده وأحاسيسه، وكل ذلك يجتمع في بوتقة كان لها الأثر في شهرته وامتداد نفوذه في عالم الفن بأوروبا حتى فيما وراء البحار.
وتأتي أغلب الظن نزاعاته الداخليّة من جراء خلافته لاسم أخ له “سلفادور” وُلد قبله ووافته المنيّة مبكرا وامتلك الرسَّام بعد وفاته اسمه. فكان يعتبر نفسه لدى والده نصف انسان، أو قل تجسيد لذاك الابن الذي فقدته الأسرة.
كان ذلكم الإحساس المرّ لا يزايل ظلّه وكانت تدقدقه الآلام دقدقة وترجّ الماسي أرجاء نفسه البضة رجًّا لا سيما عندما يحسّ نظرة والديه تجاهه وكأنه سلفادور الآخر، المفقود، فيلتمسون في حياته سلوى وأمل ورجاء تلاشت طيّ القبور ويلهثون ليبقوها حاضرة ما بقوا في المكان والزمان، فتتبدّى في تعاملهم مع هذا الغلام الذي يحسب أنه لم يرتكب ذنب في موت أخيه.
نشأ سلفادور دالي في كنف أسرة منعمة ثريّة وعاش جنونه وهزيان شبابه على أكمل وجه. يُعرف عنه هذا الجنون في مواقف كثيرة: تعذيب قطّة حتى فارقت الحياة، فظاظته وغلظته تجاه شقيقته الصغيرة آنا ماريا، ركل صديقه من حافة جبل حتى كاد أن يسقط.
الغريب في الأمر أنه كان يجد متعة فايقة في تعذيب وقلقلة الآخرين ولم تقتصر هذه الفظاظة على الآخرين فحسب فقد عُرف بتعذيب الذات، فكان يرمي بنفسه على الدرج وتدحرج بقسوة أمام المارة.
كتب سلفادور دالي في مذكراته كل هذه الذكريات ووصفها وصفا دقيقا محيرا ويعتقد الكثيرون أن هذه السمات والصفات الاستثنائية في إطلاق العنان للنفس وعدم وجود حدود صارمة في معاملة الآخرين فضلا عن أدب تجاههم هي التي شكّلت شخصيته الفنيّةالمضطرمة فانسكبت تلك الأحاسيس في أعماله التشكيليّة بجدارة وكانت أغلب الظن الانطلاقة الحقيقيّة لمذهبه الفنيّ الذي وُصِف بالسرياليّة.