آراءثقافة

حوار.. الذكاء الإصطناعي من منظور فلسفة العلم مع المفكر “إدريس هاني” على هامش مؤتمر الأمن السيبراني في ليبيا

إدريس هاني.. الفهم الواقعي للتحول التاريخي، يجعلنا لا نتجاهل الحاجة للذكاء الطبيعي

نظمت الأكاديمية العسكرية للعلوم الأمنية والإستراتيجية في بنغازي، مؤتمرا دوليا حول الأمن السيبراني، وحضر أشغال المؤتمر من المملكة المغربية، الباحث المغربي إدريس هاني، وقدم عرضا فلسفيا حول الذكاء الصناعي وتفكيك ميكانيزماته من خلال تسليطه الضوء على مفهوم الإرهاب السبيراني، وعلى أهمية الذكاء الاصطناعي في تحقيق الأمن السيبراني والحفاظ على البيانات والمعلومات المعرضة للاختراق، وذلك من خلال قراءة في الابعاد والمفاهيم المحيطة بتوصيف موضوع الذكاء الإصطناعي.

ويعتبر إدريس هاني من المفكرين المغاربة البارزين، في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني، حركات الإسلام السياسي، وتحليل جيوستراتيجيا السياسة. له العديد من الكتب المقالات والأبحاث المنشورة، وكذلك مشاركات في ندوات ومؤتمرات فكرية وسياسية محلية وعربية ودولية أقيمت في أقطار العالم العربي والعالم الإسلامي.

في هذا المقابلة الحصرية مع أنباء إكسبريس، يحدثنا ضيف هذا الحوار، عن هذه المفاهيم من منظور مختلف وشرح حيثيات الذكاء الإصطناعي من خلال الفهم الواقعي للتحول التاريخي وتمظهراته السياقية الإقليمية والدولية.

إدريس هاني في احدى مداخلاته في المؤتمر الأمن السيبراني

حبذا لو تضعنا في صورة وسياق مشاركتكم في مؤتمر الأمن السيبراني في مدينة بنغازي؟

 هو المؤتمر الدّولي للأمن السيبراني في دورته الرابعة، وكنت قد حضرت بدعوة كريمة من الأكاديمية العسكرية للعلوم الأمنية والاستراتيجية، مؤتمر الأمن السيبراني في دورته الثالثة في بنغازي.

ويبدو أنّ الفكرة الأساسية تكمن في انفتاح المؤسسة الأمنية والعسكرية في ليبيا على المجتمع العلمي المدني لخلق تواصل وأيضا تراكم في مجال مكافحة الأمن السيبراني، في مبادرة جادّة وجهد حميد. لأنّ هذه المدينة شهدت أعتى المعارك بين القوات المسلحة والجماعات المتطرفة.

وهنا تكمن مسؤولية المثقف، في تعزيز هذه المبادرة، لأنها تأتي في شروط تاريخية صعبة، وحين نتحدث عن ليبيا، فنحن نتحدث عن بلد عربي ومغاربي شقيق، لنا معه ذاكرة تاريخية وأنثربولوجية وسُلالية مشتركة، يواجه اليوم تحدّي إعادة بناء الدّولة والاستقرار السياسي.

 ما هو الجديد في هذه المبادرة؟

الجديد هو أنّ الأكاديمية العسكرية بدعم وإشراف من القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، التي تقوم بتدبير الشأن العام في هذه المرحلة الصعبة، تقدّم النموذج المحلّي الواعد، وهو ما تعكسه مظاهر الاستقرار والتنمية وتأهيل البنيات التحتية، وإرساء أيضا دعائم تنمية سياسية وأمنية لمواجهة تحديات الإرهاب.

 فالمبادرة ليست هنا مسألة اعتباطية، فليبيا التي عانت كثيرا من الأعمال التخريبية والإرهاب بتشكيلاته الملوّنة، تتطلّب كلّ هذا الجهد العلمي. وبالفعل، كان للمؤتمر دور في تنمية الوعي والفكر السيبراني، وتلاقح الأفكار وتبادل الخبرات، وهناك أفواج تخرجت من هذه الأكاديمية التي زرناها وكنا في ضيافة رئيسها اللواءالمثقّف عون إبراهيم سالم، حيث تجولنا في أجنحة وأروقة الأكاديمية، وتكونت لدينا فكرة حول الإنجازات الكبيرة التي تقوم بها مؤسسة الجيش في الدفاع والبناء.

في الصورة ادريس هاني ود.محمد تيناز وكيل وزارة الدفاع الأسبق (على يمينه) وعميد محمد البيجو من أكاديمية الدراسات العليا العسكرية (على يساره)

في مقال لك تلخص فيه مداخلتك في المؤتمر، تتحدّث عن الرُّهاب السبراني والإرهاب السيبراني، ما الفرق بين المصطلحين؟

كان قصدي هو تفكيك الرُّهاب الذي تنتجه البروباغاندا حول المجال السيبراني والذكاء الصناعي، هذا الرُّهاب، الذي يعقد عملية الفهم، هو ناتج عن أنّ الذكاء الصناعي منذ المراحل الأولى ارتبط بالتسويق.

وكان لا بدّ من تهييئ الجمهور لهذا النوع من التحول في الاستهلاك العمومي، بعد تمكن بل غيتس من إنتاج الحاسوب الشخصي، ومن ثمة انتشاره في العالم عبر شركته العملاقة مايكروسوفت. تأهيل المستهلك الجديد لعهد جديد أنتج ضربا من الطوباوية وأيضا الفوبيا السيبرانية، وهو ما يتهدد مستقبل المستهلك السيبراني بضرب من العُصاب الجماعي، وهي حالة سيكولوجية جماعية تصيب البشرية في اللحظات الانتقالية من تاريخ تطورها.

ربما لم أتمكن من تقاسم كل ما كنت أنوي تقديمه، نظرا لضيق الوقت وكثافة الأعمال، ولكن كنت أرى أنّ وضع تصور واقعي حول الذكاء الصناعي هو مهمّة تسبق الحديث عن الإرهاب السيبراني، وصور ومظاهر هذا الإرهاب باتت معروفة للقاصي والدّاني.

 هل هذا يعني في نظرك التقليل من خطورة الإرهاب السيبراني؟

 لا أقصد ذلك، بل إنّ الفهم الواقعي للتحول التاريخي، يجعلنا لا نتجاهل الحاجة للذكاء الطبيعي. نعم، بإمكان الذكاء الطبيعي أن يُستغل لصالح أعمال إرهابية، لكن ذلك ليس عن طريق استقلاله بالمبادرة، بل الخوف من توجيهه من خلال الذكاء الطبيعي، وتمكينه من خواريزميات اختراق مخازن الداتا الحساسة، وهو ما يهدد بجعلها في متناول العموم.

 الـ(chat-Gpt) لا يملك حدسا، ولا مشاعر، ولا مبادرات، وهو لا يتجاوز جملة البيانات المتاحة، ومن هنا فالصراع هو بين خواريزميات الأمن وخوارزميات الإرهاب، وهذا يقتضي العمل على حماية البيانات الحسّاسة، لأنّها الوسيلة الوحيدة لشلّ حركة الذكاء الصناعي، الذي هو بالأحرى مجرد مُعالج أداتي للبيانات، مزود بخواريزميات مبرمجة.

وهو ليس سوى أداة ابتكرها الإنسان تماما كالمطرقة والمحراث والآلة الحاسبة والسيارة، وأنّ العصر الرقمي سيواكبه تطور في احتواء مخاطره.

إدريس هاني رفقة المفكر الليبي البروفسور ميلاد الحراثي أثناء تكريم الوفود في الأكاديمية العسكرية للعلوم الأمنية والاستراتيجية

 لماذا تقلل من مخاطر الذكاء الصناعي؟

قلت بأنّ الخطاب الجديد الذي ينطوي على أيديولوجيا رقمية تعبوية، يوقفنا على مُغالطة الأرقام، والتي هي اليوم متاحة، ويمكن الاستناد إلى الذكاء الصناعي في تمثّلها، تزيد في الطين بلّة. مثلا، أسمع خطابا يستند إلى إحصائيات تعكس خطورة استهداف الفئات العمرية في الفضاء السيبراني، وهذا لا شكّ فيه، لكن على مستوى الرّهاب السيبراني أي الانبهار العُصابي بالحدث السيبراني هو مشكلة الفئات العمرية الأكبر، لأنّ الشباب يتفاعلون معه كلغة وفضاء افتراضي يشكل امتدادا للواقع، لكن لا ننسى أن المجموعة التي أدخلت البشرية للاستهلاك العمومي السيبراني هم الشباب، حيث بدأ “بل غيتس” نشاطه وهو طفل ابن 13 عاما، وكان هو ورفاقه الذين جعلوا من الحاسوب سلعة قابلة للاستهلاك العمومي كما طوروا برامج ومحركات وصولا إلى الذكاء الصناعي ولم يتجاوزوا 25 عاما من أعمارهم.

 مرة أخرى نحب أن نركز على الإرهاب السيبراني، ما هي في نظرك مخاطره على المجتمع والدول؟

 يمنح الفضاء السيبراني بلا شك فرصة لاقتناص الشباب، باعتباره فضاء يحررهم من الرقابة الباترياركية، ويحقق لهم فرصة للتعبير عن عُصاب الاستكشاف.

هناك نجد أنّ الفضاء السيبراني عبارة عن طرق ملتوية من دون علامات الطريق، والقوانين التي تُفرض هي خارجية عن الفضاء الافتراضي، وبالتالي لا شيء يمكن أن يحقق ردعا أو رقابة من داخل الفضاء، إلا في حالات قليلة مع ظهور بعض البرامج المقاومة لأساليب التهكير والغشّ.

هذا بينما القوانين التي يتم تشريعها من الخارج، تقع في محظور غير ردعي، ولأنّ الشبكة مفتوحة على كلّ أشكال الجريمة، التي تعتمد التقنية نفسها. ولذلك قلت بأننا نصل كلنا في الوقت نفسه، ونحقق كلنا مشاريعنا بالتقنية نفسها. فالإرهاب يتوسل أيضا بالتقنية السيبرانية نفسها.

حتى الآن بعض الدول سنّت قوانين مؤخرا كالصين، تقضي بقطع الاتصال في وقت مبكّر. لكنني أنبّه لما هو أخطر، أعني الإرهاب غير المتّصل، أي غير المنخرط في الشبكة، لأسباب تتعلق بتكتيكات الذكاء الطبيعي للإرهاب، أو نتيجة ما أسمّيه بالإرهاب الأُمّي، أي ذلك الذي تقوم به فئات غير مشتبكة وتجهل أصول التعامل مع التقنية السيبرانية، أو ما يتعلق بإرهاب الذئاب المنفردة التي تحمل برامجها وبياناتها في دماغها الشخصي وتعتمد ذكاءها الطبيعي.

فعملية شمهروش مثلا في المغرب، هي تندرج في نوع الإرهاب خارج الشبكة، الإرهاب غير المتّصل. إنّ انقطاع الكهرباء مثلا، يجعل العالم خارج التغطية ويؤثر على الأمن والإرهاب السوبرانيين معا، لكن انقطاع الكهرباء على المدينة مثلا، يمكن للإرهاب والجريمة الواقعيين ويسهل عملية النهب والتخريب.

إدريس هاني رفقة بعض الباحثين العرب على هامش مؤتمر الأمن السيبراني

تحدثتم عن مظاهر الاستقرار في بنغازي، أين تتجلّى تلك المظاهر، خصوصا وأن جبهة طرابلس تشهد بين يوم وآخر بعض الأحداث المسلحة؟

 تحدثت عن بنغازي كمؤشر أمل، وكنموذج للاستقرار، حيث لا وجود لمظاهر مسلحة. وهذا طبيعي، فالقوات المسلحة تقوم بالواجب، وهي تفكّر بمنطق الدّولة.

تجولنا في مناطق عديدة، وفي ساعات متأخرة من الليل، الشوارع والكورنيش والمولات ممتلئة بالمارة والزبائن، كل شيء يوحي بالاستقرار، ونجاح مشروع القيادة العامة للقوات المسلحة في تكريس أولوية الاستقرار والقضاء على الإرهاب وتفكيك خلاياه كشرط لقيام الدولة نفسها.

يجب الاعتراف بأنّ قادة المجتمع والعشائر لمّا التأموا في جبهة واحدة ومنحوا للمشير خليفة حفتر مسؤولية قيادة هذه التجربة، فلأنّهم أدركوا قبل كلّ شيء الكفاءة لشخص كان هو الجندي الأوّل في ليبيا وقاد المجموعة العسكية الليبية نحو سيناء في حرب أكتوبر، وظل كذلك حتى حادثة تشاد التي شكلت منعطفا في تاريخ ليبيا المعاصر.

إذن، حصل شكل من الانتقاء الطبيعي واختيار الأكفأ، القادر على لمّ الصفوف، وهذا قد حصل. من هنا تحدثت عن أهمية تعميم نموذج بنغازي، والبحث عما يشدّ النسيج الاجتماعي، وحضور الواقعية السياسية، لأنّ القوات المسلحة اليوم وهي الجهة الأكثر تنظيما وقوة، هي عنوان مستقبل ليبيا، ووسيلتها لتأميل الانتقال السياسي.

بالنسبة لمظاهر الاستقرار والتنمية، فهي تكمن في عدد من المنجزات، التي تتعلق بتأهيل الطرقات الواصلة بين مختلف المناطق، ببناء عدد من الجسور الضخمة، بناء تجمعات تجارية، تجمعات سكنية، باختصار، هناك وُرش مفتوحة لتأهيل البنية التحتية وتوفير الخدمات، تنمية المجتمع المدني وتأطير العمل التّطوعي.

إدريس هاني رفقة الكاتب المسرحي الليبي منصور بوشناف

قمت بزيارة ضريح الشهيد عمر المختار، هل في نظرك يمكن أن تكون هذه الشخصية الرمزية عامل توحيد الليبيين؟

 نعم، إنّ الشهيد عمر المختار قاهر الفاشست، هو رمز ليبي أوّلا، ورمز مغاربي ثانيا، ورمز تحرري عالمي ثالثا، ومنطلق مُقاومته للاستعمار الإيطالي هو بنغازي نفسها، وهو الشخصية التي يجتمع عليها كل الليبيين، إلاّ الإرهابيين الذين استغلوا سنوات الفوضى في محاولة نبش قبره الطّاهر، كما فعلوا في بلاد الشام خلال عُشرية الدّم.

وكان شرف لي أن أزوره، بفضل الصديق د. محمد التيناز وكيل وزارة الدفاع الأسبق، والصديق عبد القادر أرحيم رئيس مؤتمر ليبيا الدولي لمكافحة الإرهاب السبراني، حيث ذهبت رفقة الصديق المؤرّخ خالد نجم، وهو بمثابة سادن الضريح كما أحب أن أسميه، نظرا لاعتنائه به وبالتاريخ المجيد لهذا البطل وإشرافه على إعادة بنائه، حيث فتح لي الضريح والمتحف، ووضعني في الصورة الكاملة لرُسُوّ جثمان البطل الأسطوري في هذه المنطقة، حيث عرف قبره عددا من الانتقالات من مكان إلى آخر، وهو في اعتقادي أمر طبيعي، هذا يعكس قيمة هذا الرّمز في تاريخ التحرر الوطني وفي نفوس الليبيين، وهي حالة فريدة وملهمة، ويستطيع أن يؤلّف بين قلوب الليبيين.

زيارة ضريح الشهيد عمر المختار، تنقلك إلى ذاكرة الكفاح الوطني وحركة التحرر التي وحدت بين قلوب المغاربيين، والتي ترسم لوحة كفاح مرير ضد الاستعمار، لوحة بطيف الأحرار من عمر المختار وعبد القادر الجزائري وموحى أوحموا لزياني وعبد الكريم الخطابي، هي نفسها خريطة طريق مستقبل مغاربي أكثر تعاضدا ومتجاوزا لكل مآزقه وتحدياته. وأعتقد أنّ عمر المختار هو عامل رمزي لتوحيد المجتمع الليبي، بل رمزيته تفيض خارج حدود ليبيا لتعزيز ذاكرة الكتلة المغاربية في المستقبل.

إدريس هاني في زيارة ضريح بطل التحرير الشهيد عمر المختار ببنغازي

كما كنت أتمنّى أن نؤرّخ للذاكرة المشتركة المغربية-الليبية، حيث هناك محطّات مهمّة تبدأ من التّاريخ الوسيط، لا سيما العهد الموحدي، دراسة المشترك الثقافي والسُّلالي، التأريخ لحركة الذهاب والإياب، حيث ظلت ليبيا ممرّا للحجيج المغاربة واحتضانهم عند المرور، والتداخل العوائلي، وأيضا شكلت ممرا للوطنيين خلال سنوات الكفاح الوطني.

وهذا ما سنعمل عليه في القادم، لأهميته، ولمزيد من شدّ عصب الاجتماع السوسيو-ثقافي وصولا إلى اتحاد مغاربي سياسي واقتصادي، وحده يحمي الإقليم من عُصاب الأزمات ويخرج المنطقة من وضعية المرض النفسي للعلاقات الدولية والإقليمية، إن شئنا التعبير على طريقة برتراند بادي.

 هل توجد خلايا إرهابية ببنغازي؟

الإرهاب لا يموت، وإنما يتفكك ويصبح خارج الخدمة. ولكن بنغازي الآمنة، تشعر بالأمان بعد أن قدّم شباب القوات المسلحة شهداء في مواجهة داعش.

وقد تبيّن بأنّ فكرة أن يكون شرط قيام الدولة هو تأهيل القوات المسلحة وتعزيز مؤسسة الجيش، هي الفكرة الوحيدة التي نجحت وأتت أُكُلها. ما تعيشه بنغازي هو مثال حيّ وواقعي وليس مجرد تنظير. فالمنطقة آمنة، والقوات المسلحة في كامل جهوزيتها، والخطاب العام والمشترك للساكنة ولصُنّاع القرار واحد، جوهره يدور حول العقيدة الوطنية والرغبة في إنقاذ ليبيا من براثين الإرهاب والهشاشة والتّآمر الإقليمي والدّولي.

 ألا ترى أن سنوات الحرب عمقت الجراح داخل المجتمع الليبي؟

لعل العنصر الإيجابي هنا، أنّ المجتمع الليبي متجانس، وروابطه قويّة رغم الأزمة السياسية، وتقاليده لا زالت وفيّة للروابط القبلية والعشائرية.

وحين تغيب الدّولة يُصار إلى الروابط والقيم الأبوية التي هي ما تبقّى عند انهيار الدُّول. ويبدو أن القبائل الليبية لعبت دورا كبيرا في حماية ليبيا من التّشظّي.

بالنسبة للوضعية اليوم بشرق البلاد، ثمّة أمل تعكسه ابتسامات الناس وحيويتهم وعلاقاتهم الاجتماعية القوية، والأهم هو عقيدتهم الوطنية التي لمست فيها طراوة وهي حية لم تمت.

إدريس هاني بساحة المحكمة التي سميت بعد أحداث 17 فبراير بساحة الحرية مقابل الكورنيش ببنغازي

لديّ مؤشّر أساسي لقياس مدى قوة الأمل بالنسبة للدول في طور الانتقال السياسي، هو طراوة عقيدتها الوطنية، ومستوى وعيها الذي يلامس الروح المطلق بالمعنى الهيغلي للعبارة، فيما يتّصل بالإرادة السياسية للتغيير.

إنّ من يطّلع على حجم التضحيات التي قدّمها شباب القوات المسلحة في مواجهة الإرهاب، سيدرك أهمية هذا الإنجاز. وطبعا علينا أن لا ننسى البيئة الاجتماعية التي منحت القوات المسلحة الثّقة، بل حتى البنية التحتية للأكاديمية العسكرية، هي إنجاز للعمل التّطوّعي، ساهمت فيها القوى الحية والوطنية، قبل استقرار مؤسسة الدولة، مما يعني أنّ المجتمع يعي ما له وما عليه في هذه المسيرة من الكفاح الوطني.

 أين تكمن المشكلة اليوم، هل المشكل داخلي أم إقليمي أم دولي؟

 هو كل هذه المشاكل مجتمعة، المشكلة مركبة، ولكن الوضعية الإقليمية والدولية زادت في تعقيد الوضع. فليبيا كما لا يخفى مستهدفة لأسباب كثيرة، أهمها مواردها المادية.

المساعي السابقة الأممية، اصطدمت بحسابات دولية وإقليمية، مع أنّ الشعب الليبي متجانس وقادر أن يحلّ مشكلته بنفسه.

اليوم المطلوب أن التضامن مع ليبيا يقتضي أن يكون خارج الحسابات والمصالح التي لا تأخذ بعين الاعتبار أولوية استقرار هذا البلد وانتقاله السياسي التوافقي والواقعي أيضا.

اليوم ليبيا تجاوزت المرحلة الأصعب بفضل الجهد الكبير الذي قامت به القوات المسلحة في تطهير البلاد من التنظيمات المسلحة المتطرفة.

إدريس هاني رفقة د.فوزي الغويل الوزير المفوض بجامعة الدول العربية ومدير الأمانة الفنية لمجلس وزراء الإعلام العرب

كما أنّ الليبيين تجاوزوا المرحلة التي كان يصول ويجول فيها اليربوع برنار هنري ليفي محرّضا على الفوضى، وأشكال التدخل السافرة التي عززت الاضطراب ودفعت بالبلاد نحو مخاطر الإرهاب والتقسيم.

السياق الإقليمي والدولي رغم التباسه، هو في حالة تحوّل، وهي فرصة للتقدم على طريق الحلّ السياسي في ليبيا.

نعم، ثمة مخاطر تتعلق بالإرهاب الذي يتمدّد في المنطقة، أعني منطقة الساحل وجنوب الصحراء، في تلك التخوم الملتهبة، وهي منطقة تتهدد العالم، لأنّها باتت عش دبابير لاستقطاب الإرهاب الذي يعرف حركة انسياح كبرى باتجاه المنطقة، ومعروف أنّ الإرهاب يستهدف أولا وقبل كلّ شيء المناطق الرخوة والبلدان الهشّة، وبالتالي كانت ليبيا مرشّحة لنشاط إرهابي دولي، وهذا ما يؤكد ما قُلناه سابقا، بأنّ الإنجاز الكبير الذي قامت به القوات المسلحة العربية الليبية، ليس إنجازا ليبيا فحسب، بل هو حرب بالنيابة عن الإقليم والعالم أيضا.

بل لدى القوات المسلحة خبرة اليوم في مواجهة الإرهاب، حيث مكابدتها ضدّ تنظيم الدّولة تمّت بجهود محلّية من شباب الجيش الوطني، ابتكر فيها الجيش الوطني أساليب متقدّمة لقطع دابر الإرهاب.

ماذا تتوقعون لليبيا في ضوء الأحداث الأخيرة؟

كما ذكرنا سابقا، لا بدّ من مبادرة شجاعة تقوم على عقيدة وطنية. ولو اتبعت الأطراف الأخرى سياسة احتواء المظاهر المسلحة داخل مؤسسة الجيش الوطني، وهي فكرة القيادة العامة للقوات المسلحة التي آمنت منذ البداية بأنّ الحور السياسي الحقيقي يتوقف على بيئة مستقرة وجيش وطني.

وسوف تدرك الأطراف غير الآبهة بأهمية الجيش الوطني الموحد، أهمية هذا الخيار في لحظة يكون العنف قد خرج عن السيطرة. إذا لم تُؤخذ بعين الاعتبار أنّ الانتماء الوطني والعقيدة الوطنية هما عنصران أساسيان في عملية الانتقال السياسي، فإن تكرار مثل هذه الأحداث يضعف الثقة ويعيق مسار الحل.

إدريس هاني في جولة مع وفود المؤتمر، قرب شارع جمال عبد الناصر ببنغازي

ماذا عن التدخل الخارجي؟ 

التدخل الخارجي هو نفسه يتوقف على وضعية الجبهة الداخلية الهشاشة السياسية والأمنية تستدعي التدخل الخارجي.

فالحاجة ماسة في ليبيا إلى قيام كتلة وطنية تستوحي مشروعيتها من الذاكرة الوطنية، ومن التطلع الجماعي إلى مستقبل أفضل، وبناء الدولة والمؤسسات واندماج المسلحين في القوات المسلحة لتمكين الدولة من احتكار وسائل العنف، وخلق بيئة لعيش مشترك في ظل رؤية واستراتيجيا توافقية لتحقيق عدالة انتقالية، وحدها هذه الأمور كفيلة ببعث ليبيا الجديدة القادرة على احتواء طيفها السياسي والاجتماعي وتحقق انتظارات الليبيين.

ليبيا بتاريخها القديم والوسيط والحديث، وبإمكاناتها ومواردها الطبيعية والبشرية، تستحق أن تكن رائدة. ونحن الذين نؤمن بفكرة الاتحاد المغاربي، نتطلع إلى هذا الدور وهذا الرّصيد، وتحقيق التكامل والاتحاد، وبناء مستقبل مغاربي أكثر استقرارا وتنمية.

 ما هو الوضع الثقافي في ليبيا؟

لم يتخلّ الليبيون عن الثّقافة، فهم يواصلون نشاطاتهم الثقافية وبعضهم كما الصديق والكاتب المسرحي الليبي منصور بوشنتوف صاحب رواية العلكة، استطاع أن يحوّل المأساة إلى إبداع.

وقد صادفنا في ملتقى الأمن السيبراني تظاهرة ثقافية حول المسرح الليبي التأم فيها جمع غفير من الفنانين والأدباء، وهو أمر يعزز الوضعية المتقدمة لبنغازي التي تحوّلت إلى عاصمة الثقافة.

دون أن أنسى الدور الكبير الذي قام به المجلس الأعلى للثقافة في أصعب الظروف لتعزيز استمرار الثقافة والفن في ليبيا، وقد سبق أن أهداني رئيس المجلس الأعلى للثقافة السيد محمد محيا عددا من الإصدارات الثقافية، التي تؤكد بأن ليبيا رغم مواجعها، هي بخير ومتمسكة بحقها في الاستمرارية الثّقافية.

إدريس هاني رفقة محمد محيا رئيس المجلس الأعلى للثقافة بنغازي

لقد استطاعت بنغازي أن تحتوي كلّ أبنائها وأبناء ليبيا، وهذا مؤشّر مهم، ولكن ما لا حظته أنّ الأهالي هنا تجاوزوا مشاعر الحقد والثّأر، وهم أكثر تطلعا للمستقبل، وأكثر تشبّثا بذاكرتهم، ولعلّ الجميل هنا، أنني فوجئت بوجود أصدقاء قدامى في بنغازي، مثل البروفسور والمفكر العربي ميلاد مفتاح الحراثي، أدركت حينها أنّ بنغازي رحم وفيّ لأبنائه، وهو ينطوي على رصيد من الكفاءات والأطر قادرة على الانطلاق بليبيا إلى الأمام، في انتظار التئام الإرادة السياسية، ليبيا التي تنتظر الكثير من التضامن لتجتاز هذه المحنة.

 كلمة أخير لموقع أنباء إكسبريس؟

 أوّلا أشكركم على اللقاء، كما أقدر اهتمامكم بالشأن المغاربي، وإنفتاحكم على كلّ الآراء، وهذا مهمّ بالنسبة للخطاب الإعلامي، لأنّ الإعلام مطالب اليوم بأن يكون بنّاء ومتساميّا في خطابه وتحليلاته وأمينا في نقل الخبر، وهذا تحدّي كبير أمام أنباء إكسبريس التي أثبتت وجودها في المشهد الإعلامي في ظرف قياسي.

https://anbaaexpress.ma/n16oe

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى