دقُّ الزارٍ
لا تقتصر هذه الكلمة على السودان الشمالي بل تتعداها إلى غيرها من بقية المديريات بكل أطرافه، ذلك لارتباطها بمتغير سلوكي إنساني في المقام الأول ولا يتقيد هذا السلوك الإنساني بمنطقة ما دون الأخرى لخصوصية عنصر الإنسان لحد ذاته في المقام الثاني.
منهم من يجعل له علاقة بعالم الجن والعفاريت وما إلى ذلك، ومنهم من يسومها بالمتغير المكاني لارتباط المرء بمكان ما في عقله الباطن ويتردد عليه في حله وترحاله، ومنهم من يلزمها بالمتغير الزماني وهو التأثير السلوكي المتنقل من جيل لآخر أو من جماعة ما تعتقد في “دق الزار” اعتقاد وراثي يجب الاستمرار فيه ولا يمكن التوقف عنه وعن ممارسته بحال من الأحوال، وكذلك منهم من يعلق عليها بالمتغير الظرفي الشخصي والبيئي وهكذا دواليك.
يقود المتغير الأخير لمفهوم يحيط ويجمع كل تلك الأسباب في بند واحد هو الطقوس الوثنية أو المعتقد الفردي أو الجماعي لحالة ما مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعالم الغيب؛ ولمزيد من التفاصيل يمكنكم الرجوع لكلمتي حول سورة نوح عليه السلام لخصوصية موضوع السورة.
التعليق على الموضوع
لا أبعد عن الطريق في هذه العجالة من الكتابة إذا اصطلحنا عليها أنَّها تمثل حالة دينية لأفراد أو لجماعات لارتباط ممارسة الطقوس الوثنية الشعائر الدينية بغض النظر عن ماهية تلك المظاهر أو الشعائر التي يعتقد فيها المرء وإلى ماذا تأول، لكن ما يهم هنا تقريرها كواقع معاش في فترة زمنية ما في بلاد السودان، وأُذَكِّرُ القارئ الكريم بتعديها من المحلية للعالمية كما قلنا لارتباطها بالعنصر الإنساني أينما كان وأينما وجد.
سنة 1986 من القرن الماضي؛ كنت في الحادية عشر من العمر؛ وكان في مسكننا ببيت المال أم درمان أسرة أو أسرتين تتعهدان إقامة طقوس “دق الزار” بشكل دوري بين الفينة والحين وما كنت لأجد فيها متعة ولا لذة من حيث شكلية الطقوس بقدر ما كنت أجد الغرابة والاستفهام في نفسي لماذا يفعلون ذلك وكذلك؟ فهي بالفطرة حسب تقديري يخالفون الفطرة السوية لبقية الأسر الموجودة في المنطقة، وعلى أيُّة حال متى ما أقيم دق الزار كنت حضوراً مع بقية الأقران من أبناء الحي هناك ولا أجلس سوى دقائق معدودة رُبَّما لترسخ في ذاكرتي طيلة تلك الفترة التي شارفت على السبعة والثلاثين سنة وأوثق لها تاريخياً بالمتغيرات النيلية للسودان الشمالي اليوم.
الطقوس الوثنية
هذا ! إذا كان من الضروري التعريف برأي الإسلام في هذه العادة والطقس الوثني والدحل والشعوذة فأقول: يمنع الدين الإسلامي ممارسة هذا المعتقد السلوكي السالب لارتباطه بالشركية التسبيبية لعاملي الخير والشر لحياة من يمارسوها أو يعتقدون فيها، راجع كلمتنا عن الموضوع بموقع سودانيز اون لاين المنبر العام لعموم الفائدة والمناقشة والتفاصيل ما أمكن وكذلك الميديا وكتابنا الزمن في الإسلام تأويل سورة الزمر إن شاء الله.
وعند جهينة الخبر اليقين في حسم جدلية الممارسة والاعتقاد من عدمه لأهل التخصص من الدين والفقه وعلماء الاجتماع والأطباء وما أشبه وليس ههنا موضعها من التفصيل كما ترى.
من ضمن تجهيزات إقامة مناسبة الزار، ضرب الدفوف والطار والموسيقا، وتعرف في عاميتنا السودانية بــــــ ” دق الدَلُّوكَة ” والدلوكة هي آلة موسيقية شعبية محلية الصنع وقد تطورت حديثاً لتكون من ضمن الأوركسترا الغنائية مثل “الدَرَبُكَّة” وليس ببعيد أصلها من الدَرْبَكَةِ أي الاضطراب وشدة الحركة لما يصحب الأوركسترا من انفعالات وجدانية داخلية هائلة تقابل الانفعالات الصوتية الخارجية الصاخبة المدوية في تناغم تام وعدم حضور ذهني واضح.
دق الدلوكة؛ هو هو دق الزار ؛ والزار فيما أذهب إليه من معنى الكلمة من الزيارة، ذلك لأنَّهم يعتقدون زيارة الجن والشياطين والعفاريت حين ضرب الدفوف فكأنهم ينادونهم بهذه الحركات والضربات والتقرُّبات فيجتمع الأنس والجن في طريق واحد هو جلب المنفعة ودفع الضرر، ورُبَّما للأمان من الشر وابتغاء الخير في أغلب الظن في ذات السياق والمعنى.
يتم ذبح خروف أو خروفين كيفما اتفق؛ ومعه ديك أسود، والديك الأسود أهم من الخروف فهو يفك العمل والسحر والعارض، ويوضع الدم في إناء ويقدم لمن أقيم له أو لها الزار ويُقال له أو لها “المزيورة” فتشرب منه قدر الإمكان حسب الاعتقاد والعرف السائد.
مداخلة طريفة
في بيت المال كان هناك شخص يدَّعِي أنَّه فكي، والفكي في عاميتنا السودانية تطلق على الفقيه في الدين وجمعها فقهاء، فدرجة الفكي المدعي المعرفية لا تقارن بدرجة الفقيه في الدين المعروف في الوسط المجتمعي السوداني، فيأتي إليه الناس لأغراضهم المختلفة وبالتحديد رئيس فريق كرة القدم ليعمل له عمل السحر فينتصر على خصمه في المباراة، ويطلب منهم حسب أهمية المباراة إمَّا خروف وإمَّا ديك أسود، وبالعدم دجاجة سوداء فيمكن أن تفي الغرض ؛ ومعه مبلغ من المال وهذا من الضرورة بمكان؛ فيقوم الفكي بربط العمل في قدم الديك أو الدجاجة – ورأيتها بأم عيني – ويذبحها أمامهم بعد التحضيرات لعمل السحر والشعوذة خلال يومين بالكثير، ويعدهم وعداً قاطعاً بالفوز في المباراة والهزيمة الساحقة على الفريق الثاني، ولم يحدث طيلة حياته أن انتصر فريق كرة القدم العامل والمحضر للعمل أو السحر على خصمه، بينما يستفيد الفكي المدعي بأكل الديك الأسود والمبلغ المالي المعتبر ويبرر عدم الفوز بأنَّه قام بواجبه واللاعبين غير مدربين بما فيه الكفاية؛ فتأمل.
رجع الحديث
المزيورة أو التي عليها “الدستور” و الدستور هو الحالة النفسية المصاحبة لها / راجع التمهيد والتعريف عاليه / يجب أن تقفز أعلى الدم المسال من البهيمة المذبوحة عُدَّة مرات لفك العارض ولها أن تشرب أو تتذوق من الدم قدر المستطاع فهذا يرضى الجن والعفاريت والشياطين فيفرجون همَّها وما ألمَّ بها من شر، وأثناء عملية القفز أو النط تسمعهم يقولون: (دستور يا أسياد، دستور يا أولاد ماما) فهم يعتقدون برضاء الجن في هذه اللحظة.
الموسيقا الصاخبة
شاهدت فيديو مؤخراً على اليوتيوب عن الزار في السودان وهو متاح لمن أراده؛ فاجتهدت قدر المستطاع أن أحفظ أو أفهم الكلمات المصاحبة للرقص الجنوني فلم أقدر، هذا خلاف ما شاهدته أنا على الطبيعة قديماً، فالكلمات غير مفهومة لكنهم ينجذبون كلياً بلا وعي ولا إدراك مع ضرب الدفوف والأصوات الصاخبة وحركة الدستور بكل تفاصيل حركة الحضور فيه، وكثير من المعازيم ليس لهم دساتير أو حالات نفسية أو مزاجية شخصية مع الزار لكنهم يتجاوبون مع المستفيد الأول وأصحاب الدعوة بمصداقية عالية في الأداء اللفظي والحركي بشكل غريب للغاية وأغلب أو أكثر الحضور من الناس هن النساء.
في الحالتين، سواء إن كان الزار لرجل أو لامرأة؛ فالمرأة تشكل حضوراً كبيراً في هذه المناسبة يحتمل لملكتها في ضرب الدفوف أو لتأثيرها الأسرع في التجاوب والتمايل من الرجل أو نحواً من ذلك والله أعلم مدى حقيقته فهي تجعل بحضورها المميز قيمة معنوية كبيرة للحضور المتفرج بلا شك وبالذات المزيورة.
تمتد حلقة الزار من يوم ليومين؛ وقيل بل أكثر؛ وأذكر حينها للتي عليها الدستور بعد شرابها من الدم المسفوح تعروها وتعلوها حالة هيجان منقطع النظير فتحاول أن تمسك بأي شاب أو شابة لتعضه أو لغرض ثاني، ورأيت تلك الفتاة في حالتها تلك وهي تحاول الهجوم على مجموعة من المتفرجين من أبناء الحي وأنا من ضمنهم فوليت هارباً لا آلو على ثبات ولم أشاهد أي زار منذ ذلك التاريخ مرةً أخرى إلى وقتنا هذا ولن يكون بإذن الله تعالى.
وقفات مع قضية المتغير النيلي
لا تكتمل هذه الكلمة إلا بالتعريض لبعض الوقفات تطول أو تقصر لكنها مهمة في التعريف بدق الزار من عدة جوانب أبرزها تحليل العامل النفسي، إليكم ما لخَّصته الأستاذة / توثيق – أماني شريف صحيفة اليوم التالي 3 / 7 / 2016، قالت:
فقد عرف أول ما عرف في بلاد الحبشة، ومما يؤكد ذلك أن (يوسي وبوسري وأولاد ماما والريكامو) وهي أسماء لشيوخ الزار كلها أسماء حبشية، ويؤكده أيضاً أن كلمة (زار) نفسها كلمة حبشية أمهرية معناها الشياطين، وقد هاجر الزار من الحبشة إلى مصر سنة 1870 ثم إلى السودان سنة 1905، وبعد أن استقر في موطنه الجديد أخذ يتأقلم مع البيئة والمجتمع، وبدأ ذلك بأسماء شيوخه، وقد ظهرت في مصر أسماء مصرية وقبطية مثل جرجس وميخائيل وغيرها من الأسماء، وفي السودان (أبو جلابية والكباشي والمجدوب)، والزار منتشر أيضاً في الكثير من بلاد شمال أفريقيا وأسماؤه وطقوسه في كل بلد تتفق وحالة البلد ومشاكلها.
دخوله إلى السودان عرف الزار في مصر نحو سنة 1870 أما في السودان، فقد عرف نحو العام 1905، وكان الزار بالنسبة للمرأة في العهود السابقة وسيلة للهروب من المشاكل التي تقابلها خاصة المرأة الفقيرة التي تشتهي الثياب والحلي الذهبية وليس لها وسيلة للحصول عليها إلا الزار، والمرأة المقهورة من زوجها لا تجد طريقاً للتنفيس عما تحس به من كبت وإذلال إلا عن طريق الزار، وقد أوضح الدكتور التجاني أن كل هذا كان يتم لا شعورياً، فالمرأة لم تكن تتعمد (النزول) أو تتظاهر به وإنما كانت تعتقد في الزار فعلا وتؤمن به.
وقال: الزار قد اختفى أو كاد يختفي في السودان على الأخص في المدن وبين الفتيات المثقفات اللائي لم يعدن يؤمن به، وبعد أن وجد الطب النفسي، وهو أقدر على حل المشاكل التي تقابل المرأة وسيلة للعلاج وأكد الدكتور التجاني أن الزار ليس مرضاً وإنما هو وسيلة بدائية لعلاج المرض، وإذا كانت بعض المريضات يشفين بواسطته، فما ذلك إلا عن طريق الإيحاء النفسي لاعتقادهن القوي فيه، ومما يقوي هذا الاعتقاد الطقوس التي تلازمه من ضرب وغناء وبخور.
وتحدث الدكتور التجاني كثيراً عن شيخات الزار، وقال إن بعضهن يتمتعن بمقدرة فائقة على معرفة السبب الأساسي للمشكلة، وهن دائما يخترن الشيخ الذي يكون في طلباته علاج لهذه المشكلة.
وقال إن بعضهن مجددات فهن دائما يستنبطن طرقا جديدة ولديهن كثيراً من الأسماء تتماشى مع تطور الحياة.
وأورد المحاضر كثيراً من الأمثلة للتدليل على أن الزار ما هو إلا وسيلة من وسائل الهروب من مشاكل الحياة، فالنساء اللاتي يسيء أزواجهن معاملتهن يمسكهن دائما (البواب)، وهن لا يشعرن بالراحة إلا بعد أن ينزلن ويصحن: “هاتوا البواب واضربوه” والبواب هنا رمز للزوج رمز الزواج و(الحكيمباشي وسليمان البداوي) رمز للزواج، وهما متخصصان في الفتيات اللاتي لم يتزوجن وجميع شيوخ الحبش لا تخرج طلباتهم عن الملابس والحلي الذهبية، وأغلب من ينزلن في (خيوط) الحبش هن من النساء الفقيرات.
ومن أطرف القصص التي رواها الدكتور التجاني في محاضرته أن زوجة أحد البصراء المشهورين أصيبت بألم في فخذها وظل زوجها يعالجها أكثر من شهر دون أن تشفى مع أنه متخصص في علاج أمثال المرض الذي كانت تعاني منه، واتضح بعد ذلك أنها كانت غير راضية عن زوجها، وأمكن بعد ذلك أن يفسر موقفها منه بأنها أرادت لا شعورياً أن تخزيه وتظهر عجزه.
خاتمة
لا تختلف طقوس الزار في السودان عنها في مصر، كما يرى السودانيون أن الزار طقس علاجي، له الفضل في علاج كثير من الحالات النفسية الهستيرية، فيما يُنظر له كوسيلة لها أثر اجتماعي ايجابي حين تتقرب الزوجة من الأسياد وتحقق طلباتهم بغرض تحسين حياتها الزوجية أو المعيشية، وللزار في السودان خصائص معينة، كتخصيص طعام وموسيقا وأغاني وعطور وبخور وملابس ولغة محددة لهذا الطقس، فيما تتكون دائرة الزار من أركان أساسية هي الشخصية الرئيسية في أداء الطقوس وتسمى «شيخة الزار» أو «شيخ الزار»، ولها مساعدات ونائبة تتولى مراقبة الحفل وضبطه، والحفاظ على نيران البخور مشتعلة، وهناك شخصية «النجيبة» التي تخدم الحضور، وشخصية «الجراية» التي توزع الدعوات والرسائل، وشخصية «حبوبة الكانون» التي تتولى مهمة الطبخ، و«بنات العدة» وهن العازفات، إضافة إلى شخصية «العروسة» أو «المزيورة» التي تكون محط الأنظار ولها هيبة كبيرة، وهي «الممسوسة».
سنة 1991 بعد إعلان الشريعة الإسلامية في السودان وتطبيقها انتهت تماماً حسب ما نما إلى علمي الظاهرة المجتمعية التي تعرف بـــ “دق الزار” زد على ذلك تطور المجتمع السوداني نحو العالمية بصورة كبيرة وقبول العقل الجمعي بمنع ومحاربة الظاهرة السالبة ولم يعد لها أي وجود حتى يومنا هذا، وهذا مما يحمد لوعي وإدراك الإنسان السوداني كما ترى.
خلاصة
توفيت الشابة التي أقيم لها حفل دق الزار ببيت المال في سن مبكرة جداً في عمر الشباب ولم يشفها أو يشفع لها صنيعها – والله أعلم بالنوايا – وقيل سبب وفاتها هو التيفوئيد، فمكثت مدة من الزمن بمستشفى حوادث أم درمان الشهداء حتى أدركتها المنية وهي لم تمتحن الشهادة الثانوية العليا أو لعلها لم تكمل مسيرتها التعليمية فماتت بعدها بقليل لملازمة المرض النفسي للمرض العضوي، رحمها الله رحمة واسعة.
وفي هذا الباب؛ توفي الفكي المدعي صاحب السحر والشعوذة على حسن الخاتمة كما بلغني، وأشهد له بأنَّه كان يحفر قبور موتى أهالي بيت المال لوجه الله تعالى إذ كنت أقوم بمساعدته في مقابر أحمد شرفي بالحفر والدفن أيَّام الشباب أوائل التسعينيات من القرن الماضي وهو رجل لا يخلو من فكاهة ومرح وبحبوحة ومشهور بكلمة (أهو جاكم يا مجانين) وقالها حين تأخر الإمام محمد علي التنقاري – رحمه الله – عن أداء صلاة عيد الفطر المبارك وقلق المصلون أشد القلق إذ الشمس ارتفعت درجة حرارتها جداً وكانت الصلاة في ميدان “السهلة” الميدان الواسع الذي تقام عليه المباريات والدافوري وصلاة العيدين وحين أكثروا من التلفت وراءهم لينظروا قدومه قيَّض الله له هو أن يرى الإمام مهرولاً نحو المصلى فبادرهم بأريحيته المعهودة وقال قولته المشهورة (أهو جاكم يا مجانين) فضحك كل المصلين بتلقائية، وكان يصلي الصلوات الخمس ويؤذن للصلاة ويقيمها في مسجد خليل عمارة بانتظام حتى فارق الحياة؛ رحمه الله رحمة واسعة.
شكرررررررراً نبيلاً على المشاركة