آراء

حاجة فضلو.. سيّدة الإشلاق!

سمّيَ حي الملازمين بأمدرمان بهذا الاسم نسبة لمن لازموا الإمام المهدي بحياته، حيث بنى به  بنوه مساكنهم واتخذوه موطنا وسكنى.

يخلد على أطرافه إشلاق البوليس، ليس ببعيد عن سجن أمدرمان، وينتصب على مقربة منه بمبانيه الطوبية الحمراء المتواضعة يمنة ويسرى، وقد بُنِيَ الإشلاق على طراز العمارة بعهد الاستعمار. هذا المكان حوى كرام الناس من أولئك الذين سخروا حيواتهم لمصلحة الوطن ووهوبها لخدمة الأمّة.

اتخذت في الجانب الشماليّ منه سيدة كريمة أريبة لها مسكنا، عمرته هي وأسرتها الكريمة: حاجة فضلو، من منّا يا سادتي لا يعرف هذه السيدة العصامية والأم الرؤوم التي حينما كُنَّا نحضر إليها، كانت تقابلنا ببشاشتها ومحبتها ودأبها المنقطع النظير.

ربما تخونني ذاكرتي في بعض التفاصيل، لكني لا زلت استحضر مكان بيتها، بابه، هيئته، ما خُطّ عليه من خطوط ومن ثمّة الزريبة الصغيرة التي سكنت بها معزة أو إثنتان، ولن أنسى قدر الفول الذي انتصب تحت الراكوبة الوارفة بظلها الممتد على جنبات البيت.

كنت أقصدها بين الفينة والأخرى لاحضار الفول أو بعض مستلزمات المنزل، وأضعف الإيمان التمباك (العماري) لعمتي الحبيبة بنت الأبيض رحمها الله. يا لها من أيّام، كانت عمتي عائشة تناديني متمارضة قائلة: يا ولدي أنا مورودة (أي مريضة) وضرسي يوجعني، أذهب لحاجة فضلو واحضر لي “الزفت داك”، قاصدة التمباك! كنت أهرول بفرح قاصدا الإشلاق، وحينما أصل إلى حاجة فضلو، كانت تبهرني هذه السيدة بابتسامتها الفاترة، قوة جأشها وحكمتها وحنكتها في التعامل مع البشر، إذ كان يقصدها شتى أنواعهم: حراس السجن وعسكر الإذاعة وعمالها وموظفو التلفزيون القومي من كل صوب وحدب وكانت هي كالنحلة، دؤوبة، حِركة، متفائلة، تحلّق بين أولئك الذين انبسطوا مفترشين مقتعدين الزرابي وأبرشة الخزف أمامها، رؤوسهم مشرأبة صوب القدر الفائر المضطرم، أعينهم لا تحود عنه، تراصت هاماتهم في انتظام وتناسق وانبرشت کأنه حقل ينعت به أزهار عباد الشمس أو قُل زهرات “عبَّاد، عُبَّاد وعِباد القدر”! جئتها ذات يوم مباشرة بعد انتهاء الحصة الأخيرة من المدرسة الأهلية وقد طفح بي الكيل من أثر الجوع حتى عزفت ببطني موسيقاه سمفونيات بكل حركاتها (أليقرو، أدادجيو، فورته) البطيئة، الوئيدة والناشطة. بادرتها: حجة فضلوا بالله من فضلك أعطني صحن فتّه (بوش) بماء الفول وماء الجبن وزيت السمسم وبعض من بصل أخضر.

أجابتني: يا محمد ولدي، أقعد هناك وانتظرني شوية، ريثما أخلص من بعض المهام. انتظرت على وَلَهٍ استعر وتضرم نار جوعي وكأني في مخمصة، أهيم فيقابل ناظريّ وجهها البهيّ وكأنني أمام أمٍّ لي، رحمة الله عليهما جميعا. تخطو نحوي بمشيتها الرزينة وبخطوات ثابتة واثقة مفعمة بنور الإيمان.

تحمل إليّ في قعدتي الرانية صحني المنتظر بمحبة وقد انطلقت منه رائحة الزيت مفعمة بتوابل النيل، منها الشمار (الكمون) المخضر بالخلطة الجهنمية التي طالما عشقتها رغم أنها كانت إجبارية “وكل يوم معي”! جلست وأكلت وبعدها غسلت يديّ ومسحت بهما وجهي وبما تبقي من الزيت، مشتما رائحته الأخاذة التي أدمنتها إلى حد المغالاة.

هممت أن أدفع لها الحساب فإذا بي لا أجد مصروف اليوم الذي أعطاني إيّاه أبي قبل الذهاب إلى المدرسة. وددت في تلك الساعة أن أكون نسيا منسيا أو أن تبتلعني أرض المكان إلى أسفل سافلين. لمحتني بنظاريها برهة، أمعنت، فأدركت الموقف ثم أومأت إليّ متوددة قائلة بنبرة حكيمة هادئة ومتهدجة: القروش وقعت منك في الطريق يا بني، لا عليك! أذهب إلى البيت وسلم لي على السيدة والدتك! ساعتئذ بقيت في مكاني كالصنم وصَمَتَتْ و”صَنِمَت” أنفاسي تتملّى؛ ثم انتهرتني بِوُدٍّ مستطردة: قلت لك توكّل على الله! لا عليك، فأنت اِبني وهذا كله من فضل ربي.

حاجة فضلو سيدة من بين كثير من السيدات، نسيناهنّ في زخم دنيانا الفانية بوسط الزحام. أعطت وما فتأت، جادت بحبها ومحبتها واحترامها للناس. وليس لي في حضرتها إلا أن استذكر قول الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح  (ابو الطيب المتنبئ)، هل يا ترى هي الآن بيننا وعلى قيد الحياة؟

رسالتي لأبنائها وبناتها أن يقرأوا عني صلاة الله وسلامه عليها أينما وطئت قدماها الثرى، فلن أنساها ما حييت!

https://anbaaexpress.ma/wkjjy

محمد بدوي مصطفى

كاتب وباحث سوداني مقيم في ألمانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى