آراءسياسة

واشنطن والنيجر.. مدرسة “أكل العنب”

عجّلت الولايات المتحدة بإرسال الديبلوماسية الرفيعة فيكتوريا نولاند، وعلى نحو غير متوقع، باتجاه النيجر. كشف الحدث الأهمية التي توليها إدارة الرئيس جو بايدن للنيجر داخل خريطة أجندة الولايات المتحدة في إفريقيا، والسعيّ إلى انتهاج مقاربة عاجلة ونوعية تكون بديلاً من التهويل الذي صدر عن فرنسا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ايكواس) أو رديفاً له. وبدا واضحاً أنّ واشنطن لا تريد أن تخسر نيامي.

ولطالما تُشرف نولاند، نائبة وزير الخارجية الأميركي بالوكالة للشؤون السياسية، على ملفات ساخنة في العالم.

وقد قامت في آخر أنشطتها بالمشاركة في اجتماع جدة حول أوكرانيا، من ضمن وفد بلادها. ولئن صَاحَب نولاند إلى النيجر تصريح لوزير الخارجية  أنتوني بلينكن يؤكّد ضرورة استعادة العملية السياسية الدستورية وعودة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة، لكن وصولها إلى النيجر يوجّه رسالة إلى الانقلابيين بالمستوى السياسي الذي قرّرته واشنطن لمخاطبتهم والتعامل مع أزمة بلدهم.

لم ترسل واشنطن موظفاً عادياً أو سفيراً في وزارة الخارجية على ما درجت عليه لمعالجة أزمات كبرى مثل ليبيا واليمن وغيرها. ارتأت، بناءً على قراءة مكثّفة لمؤسسات القرار المختصة في الأمن والدفاع والديبلوماسية، التعامل مع القضية على نحو مختلف.

وظهر أنّ للولايات المتحدة منذ بدء الانقلاب في 26 تموز (يوليو) موقفاً مختلفاً ملتبساً غامضاً في التعامل مع الحدث لجهة عدم استخدام كلمة انقلاب وانقلابيين، ولجهة أخذ مسافة من الخطاب العسكريتاري الذي صدر عن مجموعة “ايكواس” ودول إفريقية أخرى في 30 من الشهر الماضي، والذي قوبل بدعم وتأييد فرنسيين.

تستنتج واشنطن أن لا شيء يمنع انتقال عدوى مالي وبوركينا فاسو الحدوديتين إلى النيجر، لجهة الانتقال الحاد باتجاه معسكر روسيا تحت جناح مجموعة “فاغنر”.

تستنتج أنّ خطاب الانقلابيين بقي عدائياً ضدّ فرنسا وحدها وليس ضدّ الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وأنّه رغم تردّد أنباء بشأن اتصالات جرت بين الانقلابيين والمجموعة الأمنية الروسية، ورغم حمل المتظاهرين الداعمين للانقلاب الأعلام الروسية في نيامي، إلاّ أنّ الخطاب الرسمي للانقلابيين لم يُدلِ، حتى الآن، رسمياً بمواقف محابية لروسيا أو منحازة إليها.

ورغم مواقف واشنطن المندّدة بالانقلاب والمعلّقة لقسم من المساعدات الأميركية للنيجر، فإنّها أبقت على المساعدات الإنسانية، وذهبت من خلال إرسال نولاند بالذات إلى التلويح بأنّها “لا تريد قتل الناطور بل أكل العنب”.

بمعنى آخر، فإنّ واشنطن توحي يإمكانات التوصل إلى تسويات مع الانقلابيين بغية إبقاء النيجر داخل منطقة النفوذ الغربي ومنع انزلاقه باتجاه ما ذهبت إليه مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى وغينيا وغيرها، في لعبة دومينو تتساقط أحجارها واحداً بعد آخر.

وإذا ما يلوح من زيارة نولاند للانقلابيين في النيجر اعتراف بهم والتعامل معهم شريكاً للحلّ، وإذا ما ترسل هذه المقاربة علامات مرونة قد تفُهم تودّداً أو ضعفاً في لهجة الولايات المتحدة في التعامل مع محرم الانقلابات العسكرية في القوانين الأميركية، فإنّ زيارة موفدة أميركية على هذا المستوى توحي أيضاً بأنّ الأمر جلل ويستحق المحاولة بالسبل الديبلوماسية حتى الرمق الأخير، وأنّ فشل الأمر لا يترك لواشنطن خيارات غير دعم تلك العسكرية التي تصدر في إفريقيا وربما الانخراط المباشر فيها.

يردّد الفرنسيون أنّ انقلاب النيجر هو القطرة التي أفاضت الكأس. يصفون الانقلاب بأنّه “un coup de trop”. هذا تماماً ما يفسّر كل هذا الغضب وردود الفعل الإفريقية والدولية الاستثنائية ضدّ الانقلاب في النيجر، التي لم يكن لها مثيل ضدّ سلسلة الانقلابات السابقة التي حدثت في المنطقة، وحتى تلك التي حدثت في النيجر نفسها منذ الاستقلال عام 1961.

ومن يراقب موقف روسيا من الانقلاب لجهة الدعوة إلى عودة الحياة الدستورية، يكشف، رغم الجانب الذي قد يكون مخادعاً، قناعة موسكو أنّ حدث النيجر لن يمرّ كما مرّت انقلابات الساحل الإفريقي، وأنّ الانقلاب، وإن انطلق لأسباب داخلية، لم يمسّ نفوذ فرنسا فقط بل أيقظ كل المنظومة الغربية على خطر بات داهماً، يُنذر بسقوط القارة السمراء في حضن روسيا والصين.

قد يبدو أنّ واشنطن أرسلت نولاند استجابةً لنداء بازوم في مقاله الأخير في “الواشنطن بوست”. وفيما تؤكّد بعض التحليلات الغربية أنّ الانقلابيين لم يدركوا خطورة ما فعلوا وما يعبثون به في خرائط المصالح الكبرى، فإنّ صعوبة اجتماعات نولاند مع الانقلابيين، على حدّ قولها، وتعذّر لقائها قائد الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تياني يوحيان أيضاً بأنّه بات لدى الانقلابيين، من خلال كمية الاتصالات الإفريقية والدولية التي جرت معهم ونوعيتها، معطيات تؤكّد أهمية حركتهم ودورهم في تحديد مستقبل النيجر وهوية البلد الجيوستراتيجية داخل المشهدين الإفريقي والعالمي، وبالتالي قناعتهم بالقدرة على انتزاع مكتسبات ومصالح تجعل منهم رقماً صعباً إذا لم يكونوا الرقم الوحيد لتحديد مسار النيجر ومصيرها وموقعها في العالم.

ويفسّر الأمر مضي الانقلابيين في إصدار تعيينات عسكرية وسياسية، بما في ذلك تعيين علي الأمين زين رئيساً للوزراء، ورفض استقبال وفد الوساطة الثلاثي (ايكواس، الاتحاد الإفريقي، الأمم المتحدة)، ناهيك بارتفاع خطاب شعبوي يَعِدُ بمواجهة الأعداء والإضاءة على الإستعدادات العسكرية للمعركة.

ومع ذلك يعرف الانقلابيون أنّ بلدهم هو من الأفقر في العالم، ويعيش على المساعدات الدولية التي تقرّر قطعها، وأنّ جيشهم سيكون ضعيفاً أمام قوات “إيكواس” التي سبق لها أن تدخّلت في ليبيريا وسيراليون وغامبيا، خصوصاً إذا ما حظيت بدعم غربي أطلسي واسع النطاق.

عقدت نولاند “محادثات صعبة” مع الجنرال موسى صلاح بارمو الذي عيّنته إدارة المجلس العسكري “رئيسًا للأركان العامة”، و 3 مسؤولين عسكريين آخرين. ولطالما اعتُبر بارمو حليفاً للجيش الأميركي منذ عقود، فقد أرسلته الولايات المتحدة قبل سنوات إلى جامعة الدفاع الوطني المرموقة في واشنطن العاصمة من أجل التدرّب. وفي هذا ما يشي بأنّ للولايات المتحدة آذاناً تصغي داخل فريق الانقلاب.

وإذا ما يكشف الدفع بنولاند صوب النيجر مستوى مصالح الولايات المتحدة في إفريقيا، فإنّ كثيراً من المبادئ المتعلقة باحترام الديموقراطية، والتي ما فتئت إدارة بايدن تؤكّد التمسّك بها وجعلها شرطاً لتعاملات واشنطن الدولية، قد ينظر إليها بعين نسبوية أخرى، فداء لمصالح باتت في النيجر والجوار داهمة شديدة الأهمية على المستوى الاستراتيجي العام. قالت نولاند للانقلابيين إيّاكم وروسيا   و”فاغنرها” وتعالوا نتكلم. هذا تماماً ما يُسمّى في علم السياسة: “أكل العنب”.

https://anbaaexpress.ma/ji3u1

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى