
فيما كان الشاف موحا يرتقي في السلم الاجتماعي و يتحول إلى برجوازي من الدرجة الثانية، كان العم خليفة، ذلك العامل البسيط المتفاني في عمله يصبح الشاف الجديد داخل المصنع، لكنه كان بمواصفات أكثر إنسانية عن سابقه الشاف موحا، بحيث كانت له مميزات الإنسان الخلوق و أكثر إلحاحا في تحسين ظروف العمل للعمال أولا و الربط بين الكفاءة المهنية و المردودية و الأجر داخل المصنع.
كان العم خليفة ملحا في أن يتمتع العمال بكل حقوقهم المشروعة القانونية و الاجتماعية، لأنه كلما احس العامل بالتحفيز و القيمة الاعتبارية إلا و كان المردود عاليا، و عاد ذلك بالخير على الشركة و ساعد على تزايد رأسمالها المادي و المعنوي.
بين الترقي و الإرتقاء في السلم الاجتماعي بسرعة البرق ، وبين النضال المستميت لنيل فتات يضمن بعضا من الكرامة الإنسانية في الصراع البروليتاري و الطبقي.
عاش كل من الشاف موحا و العم خليفة الحياة بآمالها العريضة و بانكساراتها المفاجئة، و بلحظاتها السعيدة و تلك التي كانت بطعم المرارة.
كانت الآمال كبيرة في تحسن الظروف الاجتماعية للطبقة العاملة، بالنظر إلى أن البلاد كانت ورشة مفتوحة و الفرص الاستثمارية بها كثيرة.
لكن الجدية و المعقول و العطاء للوطن، دون حسابات ضيقة غاب عن المشهد السياسي و الاقتصادي و الثقافي في البلاد. الريع و الزبونية و المحسوبية و الوصولية طغوا أكثر و كان التقهقر فظيعا في كل المجالات.
يقول العم خليفة، بأن لغة المصالح الشخصية و الفئوية طغت على الساحة السياسية، مما أدى إلى تأخرنا أشواط و سنوات ضوئية عن خيار التنمية المستدامة و النهضة الشاملة في كل القطاعات.
التسويف و التأجيل و بيع الأوهام و الركوب على إخفاقات الحكومات المتعاقبة، كان عنوان عقود طويلة من الزمن المهدور لهذا الوطن والمواطنين. الانتظارات و الأحلام و الآمال أصبحت في خبر كان.
لكن الشيء المحزن و المخزي هو تلك الفوارق الصارخة بين مكونات المجتمع الواحد طبقية مقيتة، طبقية انتهازية في أبشع صورها. استغلال سياسي و اقتصادي و اجتماعي و ثقافي.
في خضم كل هذا كان الشاف موحا، يبني جدارا عازلا بينه وبين العمال في المصنع و يتحدث بلغة خشبية مع الناس، بل أصبح يتكلم اللغة الفرنسية ك نوع من البرستيج و التميز الفئوي و بسبب تضخم الآنا لديه، و هذا حال الطبقة البرجوازية على حد سواء.
لم يتغير كثيرا حال العم خليفة، فقد حافظ على حسن تواصله مع العمال داخل المصنع و مع عامة الناس، بالرغم من مسؤولياته الجديدة داخل المصنع. حافظ العم خليفة على عاداته و خلقه الرفيع و دفاعه المستميت على حقوق العمال و التي هي أيضا كانت تمنح بنسب معينة لا ترتقي إلى ما هو مطلوب أو مفروض أن تكون عليه كحد يضمن العيش الكريم للطبقات الدنيا و المتوسطة في الهرم الاجتماعي.
يقول العم خليفة، بأن أحلام أجيال تبخرت في الهواء من جراء سوء الحكامة و المناكفة السياسية و انشطار الحركة الوطنية منذ سنوات الاستقلال الأولى، و بروز أحزاب سياسية موسمية (دكاكين حزبية )حسب المناسبات الانتخابية و الأهداف و حسب المرحلة التي تمر بها البلاد.
اختلط الحابل بالنابل و كذلك المشهد السياسي بين أحزاب إدارية و أخرى معارضة أو كما تقول أحزاب وطنية، لكن قولة العم خليفة : ليس في القنافذ املس.
تعطينا صورة واضحة عن حقيقة المشهد السياسي و الذي كان اقرب الى الصورية منه إلى تفاعل حقيقي و منافسة سياسية تصب في مصلحة الوطن والمواطنين.
أخفقنا الموعد مع كل الرهانات الكبرى، رهان التنمية و رهان بناء الإنسان و الأوطان لم نستطع الخروج من عباءة التبعية المذلة للمعمر و لم نستطع تحقيق ذواتنا، بالرغم من توفر كل شروط النهوض، لكن غياب الإرادة السياسية الفعالة و سوء الحكامة و التدبير و احتكار المشهد السياسي من جهات تعتمد الخطاب العدمي و الاحقية التاريخية، و تعتمد الخطاب الاقصائي و الأيديولوجي، زاد المشهد السياسي سوءا جنينا الإخفاق تلو الإخفاق.
يقول العم خليفة، قراءة اللحظة واجب على عقلاء هذا الوطن، إذ كفى من هدر زمننا و زمن هذا الوطن
عاصر العم خليفة الفترة الاستعمارية و فترة الاستقلال، لكنه خرج ب تقاعد هزيل لا يكفي لسد احتياجاته الضرورية، إلا بشق الأنفس مع تزايد المتطلبات و كذلك الاستهلاك الشخصي للأسرة.
يتذكر العم خليفة الفترة الاستعمارية و مشاركاته من غير علم منه نظرا لصغر سنه في إخفاء المجاهدين وإاطعامهم و تزويدهم بالذخيرة و السلاح، و كيف كان يكابد المشاق و الصعاب في ذلك العمل البطولي، يتذكر و يحكي قصة شباب نذروا أنفسهم فداء للإسلام و الوطن. لكن الخيبات ما جنى الإنسان و الوطن.
لم نستطع ابدا ان نتحرك قيد أنملة من ذلك القعر السحيق قعر الزجاجة و قد كان العم خليفة يردد قولة الشاعر الكبير بابلو نوريدا ليعطينا صورة واضحة عن واقع مر لازلنا متقوقعين فيه: “منذ ولدت و الفقر يتبعني ،يطل علي من الشرفات و يناديني من أعماق الأمطار الساقطة في شوارع الوطن.”