عماد البليك من الروائيين والفلاسفة السودانيين الذين خدموا الفكر الإنساني والثقافة العربية ووصلت أعماله إلى العالمية من خلال إنتاجاته الأدبية الغزيرة و المتنوعة والتي تراوحت بين الأدب والرواية والفكر الإنساني والتي تعتبر استثنائية للكاتب نظرا لما تحتويه من تفاصيل سردية ذات بعد فلسفي وربط أنساق العلوم والحياة والمجتمع والفكر المستقبلي ،أسس لذلك العديد من المواقع على الإنترنت والشبكات منها البيت السوداني للكتاب اﻹلكتروني وموقع الزراف وصحيفة سودان نيوز بيبر وسودان بوست وبربر الثقافي.
وبجانب عمله كمهندس معماري ، فقد شارك في تأسيس المركز الدولي لصناعة المؤتمرات في دولة قطر وكان رئيسا للتخطيط والمتابعة ،وعمل بعدة صحف مرموقة بالخليج ،ومديرا لمجلة تكاملات الثقافية في لندن وصحيفة خليج بوست من واشنطن.
ترجمت له أعمال للإنجليزية والتركية والفرنسية واﻷوردية، وبعض كتبه تدرس في الجامعات الجزائرية، كما كتب في فكر الدولة واﻷنساق الثقافية في سلطنة عمان وألف 5 كتب في هذا الإطار ووجدت له صدى في المجتمع العماني.
كما عمل مراسلا لموقع الشرفة الأمريكي التابع لوزارة الدفاع اﻷمريكية ما بين 2009 و2012 من مسقط حول قضايا الإرهاب وموضوعات السلم الإقليمي،كما شارك في أعمال ميدانية بتغطية الحرب على أفغانستان في 2001 وسافر في عدة مهام صحفية كجنوب إفريقيا وسوريا ودول شرق أوروبا.
وتقديرا لأعماله فقط حصل على عدة جوائز وتقديرات أبرزها جائزة أطلس للرواية العربية في 2016 بالقاهرة عن روايته وحش القلزم.كما حاز على جائزة أفضل مقال بيئي في الصحافة القطرية مسلمة من المجلس الأعلى للبيئة والمحميات الطبيعية عام 2001 وجائزة أفضل بحث لوزارة الصحة القطرية عام 2000 وطبع في كتاب حول مكافحة التدخين في المجتمع.
من أبرز أعماله الأدبية، الأنهار العكرة ودماء في الخرطوم والقط المقدس وماما ميركل وقارسيلا ووحش القلزم …الخ ورواية معجزة بوذا التي تعتبر آخر ثمرات أعماله الأدبية والتي تحمل في طياتها الكثير من التداخل الهوياتي والديني من خلال زاوية فلسفية بوذية.
في هذا الحوار سيتحدث لنا الروائي والفيلسوف عماد البليك عن أبرز لمحات روايته الجديدة وتأملاته في الخطاب الفلسفي في الواقع العربي انطلاقا من الهوية وعلاقته بتردي الوضع التنموي بالعالم العربي، وكيف يمكن توظيف أزمة الهوية والصراع النفسي الحضاري في معجزة بوذا بأزمة معظم الشباب في العالم العربي من مشكلة اختلاط الهويات الفرعية الصغيرة بالهوية الوطنية الرسمية.. وغيرها من المحاور
ماهي الدوافع الأساسية التي دفعتك إلى تأليف هذه الرواية المثيرة للجدل؟
فكرة هذه الرواية بزغت منذ أكثر من عشر سنوات، لكنها لم تصبح حقيقة إلا مؤخرا، انطلقت من قصة يمكن القول بأنها واقعية سمعتها من سفير سوداني سابق، لكن ما كتبته في نهاية الأمر ليس ما سمعته بل روايتي الخاصة، حيث تحركت في فضاءات الثقافات الإنسانية والديانات، كيف بالإمكان تقريب المسافات بين الأفكار وتشكيل فكرة الوحدة الإنسانية الفكرية. هذا يعني أنني انطلقت من الإطار القصصي أو الواقعي الموضوعي، بيد أني وصلت إلى المحطات الفكرية والاستفهامات الكبيرة حول ماهية الإنسان؟ فاعليته؟ ماذا يريد في هذا العالم؟ أو بالأحرى ما الذي يريده منه العالم؟ وهل نحن نتحرك بإيحاءات من عالم خارجنا أم من داخل أنفسنا وإرادتنا الذاتية. كل ذلك شكّل لي دوافعا للكتابة، أنت تعرف أن أي كتابة تكسب قيمتها في هز الثوابت والتشكيك في الوصايا، ومحاولة اختبار معرفتنا ومكتسباتنا أمام كون حافل بالغموض.
تيمة الصراع الهوياتي والديني حاضرة بقوة في معجزة بوذا ماهي المحددات الرئيسية التي انطلقت منها في بناء الشخصية الرئيسية للرواية؟
شخصية ساتي ذلك الإنسان الذي ولد في السودان وعاش حياة بديلة في تايلند، تطرح تساؤلات حولنا نحن البشر، ما الذي يشكلنا أو يصنعنا، هل هو أمر جيني مزروع فينا يتم تناقله، بمعنى هل المعرفة والتقاليد والقيم يمكن توريثها حتى لو كان ثمة اغتراب جغرافي؟ أم أن هذه الأمور هي مكتسبات من المحيط حولنا.
كعادتي لا أقدم إجابات، أقترب فقط من محاولة الفهم وقد لا أفهم. فالكتابة في تقديري هي عملية محو أكثر من كونها إضافة، إننا نزيل رواسبنا وشكوكنا لنعمقها. عندما يكون سؤالنا حول أشياء كالهوية والدين، لنقل مفاهيم، سوف يتعقد الوضع كما تطرحه شخصية ساتي، فهو إنسان عاش بكامل حواسه العالم البديل، حتى لو أن أطياف الطفولة ظلت تطارده ككوابيس أو أحلام أو أوهام، لكنه ذات يوم اكتشف أنه في عالم آخر، ومن هنا بدأ النزاع النفسي، والقراءة ومحاولة الوعي بثقافة مغايرة هي في الأصل ثقافته الأم. لا تكون محددات مسبقة، تظل إذن هي أسئلة وحركة فكرية تنتج أثناء الكتابة، لا أؤمن بالمحددات والقوالب الجاهزة في الفنون عامة.
تطور المدلول التقليدي لنيرفانا عند اونغارت نيمساكول كان بمثابة النافذة التي يطل عليها لفهم الحياة الجديدة التي عرفها لاحقا، هل هذا التطور السيميائي في المدلول الديني هو نتاج لترسبات التقلدانية الدينية؟
هذا التطور كانت نتاجا طبيعيا لاكتشاف الأب البديل، أو الهوية المخفية أو الغائبة كونه سودانيا يعيش في ثفافة أخرى مع عائلة ثانية وكونه يعتنق معتقدا أو دينا ليس هو دين آباءه. من هنا تحرك مفهوم الإرواء وإنهاء حالة العطش الإنساني المستمر، بمعنى أن الإحساس بالصدام نتاج المغاير هو ما يحركنا لكي نعيد التفكير في مفاهيمنا للأشياء من حولنا، إذا فقد استفاد ساتي أونغارت نيمساكول من تقليديته كبوذي في سبر أغوار العالم الجديد/ القديم الذي أطل فجأة في حياته، كانت معضلة غير متوقعة، إذ ينبغي عليك أن تتحرك مجددا لتعيد تقييم العوالم من حولك، سوف تخضع كل تجربتك السابقة لاختبار الصمود أمام المستحدث والطارئ، وليس هو طارئا بل أصيلا، هناك سيكون لمفهوم النيرفانا أن يدخل كسؤال في صميم ثقافات أخرى الإسلام والتصوف بل مجمل التجربة الإنسانية، لشخص مثل ساتي لم يكن يعرف أين يقف بالضبط! فالأمر قد يكون له علاقة بالدين، لكن عقل ساتي كان قافزا على التقليد، كانت له صورته الخاصة للأشياء خارج توقعات الأديان والمعارف الشكلانية، كان يحاول أن يكتشف ويفهم، من خارج المكتسب والعادي! وهذا ما جعله مجربا للرسم أو للقراءة والمحاضرات أو لأن يكون رجل أعمال ناجح، تعدد المواهب وفنون الاكتساب والمعرفة، الذي قد يشير لأمور كثيرة تتعلق بذات هذا الإنسان وعطشه لإرواء وجوده ومغزى كونه هنا.
في اولى صفحات روايتك استعنت بمقولة بوذا “إن ما نعتقده هو ما نصبح عليه” هل يمكنك أن تشرح لنا هذه المقولة الفلسفية ذات الأبعاد الكونية واسقاطاتها على الثقافة الإسلامية؟
مقولة بوذا دلالتها واضحة، أن الإنسان هو عبارة عن طبقات تراكمية للمعتقدات والقيم التي يسير عليها في حياته، وهو أنموذج طبيعي ومنطقي بل يحمل الطابع العلمي، فكلما حرر الإنسان المعتقد والأفكار والفلسفات التي يسير بها في العالم استطاع أن يصل لإنسان جديد داخله، هذا ينطبق على شخصية ساتي في الرواية، وتجربة بوذا النبي هي تجربة إنسانية في نهاية الأمر، كعيسي ومحمد وموسى وسقراط وزرادشت الخ.. الذين كسروا قواعد الاعتقاد واستطاعوا أن ينتجوا عوالم بديلة ممكنة، إذ تحركنا باتجاه الإضافة والحذف والتغيير يكسبنا من نكون في المستقبل. وإذا ما طبقنا هذه المقولة كما طلبت على الثقافة الإنسانية فهي أيضا صحيحة، فالثقافات الكونية واحدة من البوذية إلى الإسلام، أعني في الأصول المتعلقة بجوهر إدراك الإنسان والحياة والكون، حتى لو اختلفت طرق التعبير أو التصورات، فهي محكومة بالتجربة والزمكان وأنماط التأويل البشري التي هي أسيرة لأبعاد عديدة معروفة من ظروف تاريخية وثقافية وطبائع مجتمعات حتى الطقس والبيئة تؤثر في تشكيل المعتقد والتخييل، وتبقى القوة في تحطيم أو تغيير أو إعادة تشكيل في ذلك، وإيجاد الواقع البديل، من خلال تطوير منظومة المعتقدات، هذا ما حاول فلاسفة مسلمون كبار فعله، كالنفري وابن عربي وابن سينا والفارابي وابن خلدون الخ.. إنهم لا يختبرون المؤقت ولا المتأصل، يفكرون من خلال مناظيم الثقافة الإسلامية كمسلمين مختلفين تماما عن العوام. من معنى بسيط فالإسلام يحدثنا عن أن سعي الإنسان في الحياة ومكتسبه ينعكس في الذات الإلهية والمؤمنين مرئيا، وأن التغيير يبدأ من الذات، وأن التدبر مطلوب وإيجاد تصورات ومنطلقات جديدة للمعرفة، هذا موجود في النصوص الدينية لكن ثمة من لا يقرأه بالشكل الجلي مكتفيا بطبائع النصوص في تجليها المظهري.
ما هي العلاقة الوجدانية بين تايلاند البوذية والسودان الإسلامية من خلال أونغارت نيمساكول؟
لا أعرف كيف حدث هذا الارتباط، حتى لو أنه حدث واقعيا – بواقعية النص- كما قدمت لذلك، برغم أنني لست متأكدا هل القصة التي رويت لي كانت تتحدث عن تايلند أم بلد مشرقي آخر. وهذا ليس مهما. فالرواية التي تكتب ليست هي تصوير أو نمذجة للقصة الخارجية، هي عالم آخر يكتف باستعارته وصوره الذاتية التي تفسر من داخله.
الحديث عن الوجدان، ونعني به عند ساتي يشير إلى الوحدة أكثر من الانفصام، قلت لك سابقا أن الإنسان هو الإنسان والدين هو الدين، تختلف التمثلات الخارجية والطقوس الأدائية وربما النصوص المقدسة، لكن تبقى واحدة في ترميزها البعيد وفي الأهداف السامية والعليا، ليس لوجدان بوذي أو مسلم ناصع أن يدعو إلى الشر أو القبح، وهذا ما تطبع به ساتي أن في لحظة معينة صعب عليه أن يفهم أين يقف هو! داخل أي دين وأي وجدان. إذن يكون الحديث عن وجدان واحد متصل، يتأصل بمعرفة مستمرة لن نقول ان انقلابا حدث فيها نتيجة التحولات التي مرت بها الشخصية، إنما هو طريق واحد يقود في نهاية الرحلة إلى الإدراك والنيرفانا. فالعلاقة الوجدانية بين البلدين كما تطبعها أنت بطابع الدينين البوذية والإسلام، هي جوهر واحد عند ساتي مع اختلاف التجربة لو أنه عاش في بلده، ربما سيكون إنسانا آخر. لا أعلم؟
ذكرت في روايتك حادثة الانقلاب على الرئيس السوداني السابق جعفر النميري وربطتها باغتيال اونغارت نيمساكول، هل هذا الربط اعتباطي؟
شخصيا لا أؤمن بأن نسيج الكون وأحداثه اعتباطيا، يجب أن نفكك الأشياء لكي نفهم أن ثمة شيء يقود إلى شيء آخر، هناك متسلسلة من الوقائع التي تقود إلى حدث معين، أو تصرفات أو سلوكيات الخ.. وهذا هو مفهوم التحور أو التحول الطبيعي في الكون، قد يكون ذلك واضحا في دراسة العلوم الطبيعية وبات الآن يطبق حتى على العلوم الإنسانية، وفي الرواية أنت أمام نسيج لعالم متكامل قد يكون افتراضيا أو خياليا، لكن له ضوابطه التي سوف تفسر لنا لماذا حدث ذلك وكيف.
أنا شخصيا ليس لي أن أفهم الإجابة بالتحديد، وهذا يعني أن قارئ النص أو الناقد قد يستطيع أن يركّب تصورات تقوده إلى فلسفة معينة بخصوص ما حدث؟ ولماذا ارتبطت نهاية أونغارت في الخرطوم بالانقلاب على النميري. قد تكون القصة الحقيقية فيها هذا الربط، لكن هذا ليس مهما كما قلت لك سلفا، أن الرواية هي عالم آخر مكتف بذاته، كون موازٍ. لكني كقارئ خارج سياق النص يمكن أن اقترح إجابات، بأن الإشباع الكافي عند ساتي وصل حده بأن تنتهي حياته عند عتبة الوطن، المقادير سمها أو النواميس الكونية أو قوانين لا نفهمها إلى اليوم هي التي جعلته يقف هنا، عند تلك اللحظة سواء تعلقت بالنميري أو لم تتعلق.
ماهو تقييمكم للحركة الأدبية في السودان بصفة خاصة والعربية بصفة عامة؟
بالطبع هناك حراك أدبي وإنتاج كمي على مستوى السودان أو العالم العربي عامة، لكن من الصعب إعطاء حكم عام على مجمل هذا الإنتاج وجودته، فأنا لست مطلعا على كل شيء. لكن يمكن لي أن ألخص الفكرة بقولي إن هناك سؤال مستمر للمؤلفين والأدباء يتعلق بالبحث عن المعني، سواء كان ذلك المعنى متمثلا في سؤال الهوية أو فاعلية الذات في الحياة أو العلاقات التشابكية بين الأصالة والمعاصرة أو التراث والجديد، أو الدين والعصر الخ..
كذلك أسئلة المعاش اليومي والسياسة كل ذلك، يتم طرحه في النصوص الأدبية السودانية والعربية. هناك مشكلة لابد من مواجهتها هنا لا تتعلق بصدق النوايا مرات أو بالرغبة في التغيير وإنما بالأدوات والفكرة البوذية التي أنت أشرت لها من ضرورة تغيير المعتقد “إن ما نعتقده هو ما نصبح عليه”، وهذا بظني فيه بعض القصور لدى البعض، فهم لا يختبرون حقيقة معارف جديدة أو تطويع لغة جديدة أو استكشاف العالم الثاني أو البديل داخل فكرة الكتابة الخ.. فالكتابة ليست عملا آليا أو تجريبا فحسب، هي مسألة معقدة لها كيمياء غامضة إلى اليوم، خلاصة ما أشير إليه أننا في حاجة إلى فكر جديد يعيد تعريف الأدب والفنون والمعرفة في بلداننا، لكي ننتج فنون حرة وأصيلة في ذات الآن. فالشعوب السودانية والعربية تعيش أسرى الماضي إلى اليوم، وهي تتنازع سؤال الهوية بطريقة غير معرفية، كما أنها تؤطر نفسها بالدين الأرثوذكسي الذين لم ينفتح ليكون له تجل حقيقي لبعد الدين وتأثيره في الحياة، هذا المعضل أو المشكل نجده منعكسا في الرسالة الأدبية والفنية، التي هي أيضا انعكاس لخلل المجتمع، وحتى مرات يصفق القارئ لنص لأنه يلبي معتقده ليس لأنه يحرره حقا. بمجرد يكون التحرير والمحو، قد يحارب النص وقد يصبح مارقا. هذا عالمنا للأسف.
على صعيد السودان ثمة إشكالات تتقاطع مع الإطار العربي أو مجتمعات التخلف، لكن هناك مسائل محلية أيضا لها أثرها على المجتمع الأدبي والفنون والنصوص، نحن لا زلنا مجتمع دون حداثي، ولا يمكن للأدب أن يتطور في ظل غياب أنساق تكسبه طابع الاعتراف، هذا غير حاصل في السودان، والموضوع يطول الحكي عنه.
كيف تنظرون إلى الخطاب الفلسفي في العالم العربي انطلاقا من الهوية؟ وما علاقته بتردي الوضع التنموي بالعالم العربي؟
الخطاب الفلسفي العربي، إن جاز التعبير، له سمتان، الأولى أنه يأخذ من البعد الإسلامي ولكن دون إعادة استكشاف قوي وكبير يعيد للإسلام نصاعته بوصفه حيويا ومستقبليا، والثانية هي الأخذ من النموذج الحداثي الغربي، وهنا يقع في إشكال القولبة أو استيراد النماذج التي قد لا تلبي الطابع المحلي والأنا. لهذا فإنه ليس لدينا فلاسفة بالمعنى الكبير، قادرين على استنطاق الذات من خلال المعطيات الذاتية. صحيح أننا اليوم أمام سياق ثقافي إنساني عالمي، لكن هذا لا يعني أن هناك خصوصيات ثقافية موجودة خاصة لبلداننا العربية، التي تقع كجرز متقطعة عن بعضها، لا يمكن الحديث عن فلسفة عربية واحدة ولا مرجعية متصلة، فالعرب متشرذمون، غارقون في الأنانية والشعبوية المناطقية والقبلية لم تنته بعد، والدين أصبح قيدا على التقدم لأنه متعطل عن التطور.
من هذا الإطار العام فسؤال الوضع التنموي سيبدو واضحا، لا يمكن إنتاج مجتمع متقدم تنمويا من داخل بئر الجهل، الخوف، القيود وغياب الحريات، الذات المطاردة بأشباح الوهم. الإنسان العربي لا يعرف كيف يفكر حتى مع نفسه داخلها بحرية، فالرقيب يسكنه بقوة. مع الربيع العربي المزعوم اعتقد بعضنا أن ثمة تحولا سيحدث، ولم يحصل شيء بل أصبح الوضع أسوأ، كذلك في السودان حدثت انتفاضة شبابية كردة فعل على الأوضاع الاقتصادية لا اعتقد أنها لها بعدا معرفيا ناضجا، هم شباب ثائرون رافضون وجدوا أنفسهم في عالم السوشلميديا يريدون أن يشبهوا العالم الخارجي ويتمثلون خطى حياة جديدة ربما لم تتضح ملامحها لهم بعد مع غياب “الأب” الذي يمكن أن يهدي السبيل، ومن بعدها تم تدوير الأوضاع إلى ذات الفكرة المغلقة، الدولة العميقة، وهو تعبير فج لا يوضح الصورة، لكنه يعبر عن المشهد. التقدم لن يحدث تنمويا، قبلها إنسانيا، إلا بالتحرر الكبير، الذي يمس العقول ويحرر القلوب من العاطفة الجوفاء والخوف القاتل.
هل صحيح ان العقل العربي يعاني من عوائق وأزمة في الإبداع منذ ظهور الفرق الكلامية إلى يومنا هذا والتي أثرت سلبا على واقع التنمية الفكرية في العالم العربي؟
نعم بكل تأكيد كما أشرت في السؤال السابق، فهناك أزمة مستفحلة في الإبداع بل التخيل، فمنذ أن كتب أبو القاسم الشابي رسالته الشهيرة “ضعف الخيال الشعري عند العرب” والصورة جلية، الخيال العربي لم يغادر منصات الشعر العربي التقليدي حتى لو أنه وصل قطار قصيدة النثر، ولا يمكن للشعر أو القصيدة أن تتطور إلا بتطور اللغة، ولا تتطور اللغة داخل خطاب مقدس، يرى أن هذه اللغة مكتملة تكلم بها الخالق، فأي محاولة لإنتاج تخييل جديد داخل هذه اللغة سوف يصطدم بأنك سوف تنازع المتكلم المطلق، في صفاته. هناك إشكال حقيقي هنا. لهذا فالإبداع هو وليد تحرير جملة هذه التشابكات من تحرير الخطاب الديني، تحرير فكرة القداسة، المضي باتجاه خطاب إنسانوي جديد وعالمي وعرفاني، العرفان بالتحديد يمكن أن يكسب شعوبنا صفة الجسارة والقدرة على التحدي والتخيل السليم والمستقبلي. من هنا فالتنمية هي واحدة من انعكاسات هذا الوضع، سوف تنطلق بمجرد تغييرنا للوعي، ولكن من أين نبدأ؟ هذا هو الأمر المربك والصعب حقا. حيث تبدو الطرق كما لو أنها مغلقة!
هل تراجع الفكر الفلسفي في اﻷنساق الفكرية للعالم المعاصر كان سببه السياسية والدين؟
هناك أزمة فلسفية عالمية هذا أمر سليم، نحن في الوضع صفر، باعتبار أن العالم متقدم علينا في كل شيء. والسؤال يقود إلى سؤال قبله، ما الذي نعنيه بالفلسفة وماذا نريد منها بالضبط؟ أعطني تعريفا محترما ونهائيا وقطعيا للفلسفة سوف أشرح لك لماذا تتراجع الفلسفة؟ لهذا فالإجابة تبدأ من تفكيك الفلسفة نفسها ومحاولة إعادة تعريفها في سياق عالمي وإنساني حديث، وهذا ما حاول أن يطرحه فلاسفة مثل جيل دولوز كما في “المفهوم الفلسفي”، هذا يعني أن الفلسفة أصبحت ربما هي منغلقة على ذاتها أكثر من كونها منفتحة على العلوم الأخرى، كما بدأت تاريخيا بأن كانت هي أم العلوم – إذا جاز التعبير – لدى الأغريق، كانت تحرك الفيزياء والكيمياء والتاريخ وكل شيء. انشعال الفلسفة بسؤالها الذاتي له بعدين الأول إيجابي أنه سوف يحركها من جديد لتصبح أكثر فاعلية وقوة وقدرة على التموضع كمركزي وسط العلوم الإنسانية بل مجمل العلوم إنسانية كانت أم طبيعية، والثاني سلبي هو أنها قد تنغلق على ذاتها وتصبح اشبه بطاقة لاهوتية مغلفة ليس لها وجود خارج مؤسسة الفلسفة نفسها وهذا ما يحدث اليوم. لهذا لا أؤمن بأن الإشكال الفلسفي يتعلق بالسياسة أو الدين، إنما بالفلسفة نفسها ممارسة وتحريرا وتنضيدا جديدا. هذا لا يعني أن ثمة تشابكات لا يمكن تجاهلها، لكن تظل أزمة الفلسفة فلسفية بحتة!
كيف يمكن توظيف أزمة الهوية والصراع النفسي الحضاري في معجزة بوذا بأزمة معظم الشباب في العالم العربي من مشكلة اختلاط الهويات الفرعية الصغيرة بالهوية الوطنية الرسمية؟
نعم طرحت “معجزة بوذا” كما تفضلت استفهامات حول الدين، الهوية، الصراع النفسي الحضاري، الخ.. من أزمات يمكن أن يعيشها الإنسان اليوم، وهي حاضرة سواء لدى المهاجرين أو من يعيشون في مجتمعات أخرى، وهي قائمة حتى داخل البلدان العربية، عندما يذهب عربي مثلا إلى بلد آخر ويظن أنه داخل مجتمع يجمعه معه بعد قومي ولغوي وديني، ثم سيفاجأ بأنه كائن معزول، أن العرب يعيشون داخل أوهام القبيلة في تاريخهم ما قبل الإسلام، فأزمة الشباب العربي هي أزمة داخل كل دولة وداخل المحيط الأكبر إقليميا أو دوليا، والأسوأ أن تحاصر داخل بلدك من خلال ما اسميته أنت الهويات الفرعية، لهذا فالرجوع إلى التحرر هو الحل، إنشاء دولة المواطنة المستقبلية الحقيقية التي يسودها القانون ولا تعترف بغير الإنسان، وتساوي بين الجميع وتكافئ في الفرص. بالذات للشاب العربي فالأزمات متعددة ومعقدة، لا تقتصر على جدل الهوية الجانبية أو القبلية، لأن بعض القبائل تستبعد الأخرى، أو كذلك نشوء الطبقات البرجوازية الأكثر حداثة التي هي شيء طارئ لا تعرف من أين ولدت، بل تمتد لفكرة الدولة العسكرية ومركزة الحكم أو السلطة، وغيرها من المسائل السياسية التي لا تنفصل عن السوء الاقتصادي، كل ذلك يقود لمعركة كبيرة، يكون الانتصار عليها بالمعرفة. والرواية هناك تفكر بالطرق البديلة أو الاحتمالات الممكنة، ماذا لو؟
كلمة أخيرة؟
أشكرك أستاذ عبدالحي على هذا الحوار، الذي استمتعت بالإجابة عليه، حيث أن الأسئلة المطروحة ساعدتني على التفكير بحد ذاته كعملية تتحرك من خلال شرارة التحفيز، وأتمنى أن نتواصل في حوارات مقبلة.. وأن يعم العالم الخير والسلام.