
الوجودية عموما تركز على الوجود الإنساني، لأنه الحقيقة اليقينية الوحيدة، فهى أدب الإلتزام، أدب المواقف، ولكن ما نعنيه فى مقالنا هذا هو التيار الوجودي المؤمن، الذى ينأى بنفسه عن الوجودية السارترية الملحدة، وفى نفس الوقت فهو ليس مؤمن تقليدي رافض للعلم والفلسفة، لكنه الخط الثالث للعلاقة الشائكة، الذى يجمع مابين العقل والإيمان، والعلم والدين، طريق فلسفات الحياة.
والظاهريات، فلسفات الوجود، التى أظهرت “اللاهوت الوجودي” فمع تيليش وبولتمان وبارت وفروم أصبح اللاهوت مرتبط أكثر بالإنسان يحلل الوجود الإنساني في أبعاده المختلفة، من هم، قلق، موت يأس، خوف، ففى الوجودية يكون السؤال هو الأهم وصف الأزمة أهم من حلها، بولتمان وتيليش عادا بنا إلى الأساس الإلهي لبناءالوجود الإنساني والحضارة الإنسانية على الشرعية الإلهية “الثيونومى” من هذه الخلفية الوجودية ينطلق مصطفى ملكيان الذى يداوى فلسفته فى حصون العقل متاكأ على منهجية بولتمان وتيليش.
العقلانية والمعنوية
يقول الدكتور عبد الجواد ياسين “أننا اليوم أمام وضع جديد لفلسفة الدين مما يعنى ضرورة التخلص من مسلمات التاريخ الوضعى التى أطلقها الإجتماعيون الكلاسيكيون عن التلازم العكسي بين التطور وحضور الظاهرة الدينية وتجاوز فكرة النظر إلى علاقة الدين بالحداثة كمعركة بينه وبين العلم.
ستنتهى حتما بزوال الدين” [1] فى ضوء ذلك يرى ملكيان أن العقلانية والمعنوية “الروحانية” ظاهرتين لامفر منهما وأن المعنوية تحدث عندما يستشعر الإنسان بالحاجة إلى الدين من جهة والإحساس بأن الدين بمفهومه التقليدي التاريخي لا ينسجم ومعطيات الحداثة, هنا تنشأ الحاجة إلى العقلانية التى هي أكبر عناصر الحداثة وأبرزها الغير قابلة للإجتناب.
يخلص من ذلك إلى أهم خاصية من خصائص المعنوية “الروحية” ألا وهى قدرتها على التوافق مع العقلانية والإنسجام معها من ذلك فالمعنويةهى”التدين المعقلن” كما يرى ملكيان.
وبما أن المعنوية هى التدين المعقلن من وجهة نظره فالعقلانية إذن كمايراها تعنى الموازنة بين الإيمان بعقيدة ما وبين متانة الشواهد والبراهين الدالة عليها مشيرا إلى أن العقلانية أهم مستلزمات الإستنارة.
معاول ملكيان التوفيقية بين العقل والدين لاتتوقف على ذلك بل تحمل معها الشك الذى يراه الجرأة والمبادرة إلى التشكيك فى صحة أو سقم كل عقيدة أو ممارسة يراها فرد أو أفراد أو كل الأفراد صحيحة أو غيرصحيحة، فالتشكيك فى كل شىء وظيفة تقع على عاتق كل مستنير بالقوة وانتقالها من القوة إلى الفعل فيما يرتبط بعقيدة أو ممارسة معينة، ذلك مقتضى تنويرى يقطع الطريق على كل ألوان الجزم والتحجر اللاعقلاني، ومن الشك ينطق النقد الذى لا يعتبر أى شخصية مثالا للحق أو الباطل، وبالتالي عدم التسليم لأى عقيدة أو ممارسة بلا دليل، ولا نبذها بلا دليل فالنقد قبول أو رفض العقيدة أوالممارسة بالأدلة فقط.
ومطالبة الجميع بالأدلة وفحص أدلة الجميع فى مختبر العقل، والإلتزام بالعقائد والممارسات المطروحة بما يتناسب وقوة الأدلة المقامة لصالحها.[2]
يرى ملكيان بضرورة فتح حوار بين الدين وكل المذاهب البشرية لإستخراج مابينها وبين الدين من تضامن وبما يساعدنا على فهم واستعاب أكثر للوحي.
مشيرا فى كتابه “العقلانية والمعنوية” إلى أنه لا يوجد مدرسة فلسفية توصف بأنها الأقرب للدين فى ذلك يقول “ليس من الصحيح ربط فلسفة ما بدين معين ربطا أبديا حاسما فكل واحدة من المدارس والمذاهب البشرية خليط من الحق والباطل وليس بينهماحق مطلق أو باطل مطلق كما قد تكون مدرسة فلسفية ما أقرب للدين من زاوية معينة فقط، توجد مدرسة أخرى أقرب له من زاوية أخرى وهكذا، وبالتالى بإمكان كل مدرسة أونظام أن يسهم فى فهم وتفسير جانب من جوانب الوحى”.[3 ]
هو فى ذلك متكأ على منهجية بول تيليش أحد أئمة اللاهوت البروتستانتي ومفجر الحياة فيه ومن أقدرالمعبرين عن الوجودية المؤمنة الدينية ففى كتابه “اللاهوت النسقي” أعطى كل العقائد الدينية دلالة وجودية وأقام حوارات بين الدين من جهة “المسيحية” وكل ما يتلائم معها فى الثقافة الإنسانية الجديدة، فقد كان يرى أن ذلك طريق المصالحة الوحيد بين التدين والعقلانية وسمى لاهوته أيضا “باللاهوت الثقافي”.
العقلانية والإلحاد
هناك إعتقاد شعبى شائع بإرتباط العقلانية بالإلحاد أى أن كل عقلاني ملحد ،هذااعتقاد خاطىء فالإرتباط بينهما ضعيف ومتقلب فقد أثبت التحليل الشمولي لـ “بينيكوك” ارتباطا ضعيفا فمعامل الإرتباط بينهما يساوي 0.2 فقط بين التفكيرالعقلانى وعدم الإيمان أي أن التفكيرالعقلاني يقلل التدين بدرجة طفيفة، والعلاقة بين العقلانية والإلحاد متقلبة تماما عبرالسياقات الثقافية، فبناء على الدراسة التى أجريت فى “13” دولة حول العالم منها دول علمانية كهولندا، وفنلندا، ودول دينية كالهند، والإمارات العربية، وفى أماكن من الولايات المتحدة.
كان الإرتباط موجود، دون أن يكون قوي، ويختفي في أجزاء أخرى من العالم، وأظهرت النتائج أن الإرتباط البسيط اختفى إلى حد كبير تماما فى العينات الأوروبية الأكثر علمانية، وكان أضعف فى معظم الأماكن مما يبدو عليه فى الولايات المتحدة وبالمتوسط فى جميع البلدان الـ “13” كان معامل الإرتباط يساوى 0.2 فقط مما يعني أن العقلانية تقلل التدين بدرجة صغيرة جدا لا تذكر، فالعقلانية لا ترتبط حتى بشكل متواضع مع الإلحاد.[4]
الدين والعقلانية
إذا كانت العقلانية برئية من تهمة الإلحاد فهل يحق لنا أن نسأل عن العلاقة بين الدين والعقلانية.؟
فيتجنشتاي وهو واحد من أعظم فلاسفة العصر الحديث يرى أن النهج النظري المفرط عاجز عن فهم خصوصية فعل الإيمان، فالمعتقد الديني من وجهة نظره ليس فرضية يمكن اختبارها من حيث حقيقتها.
ولكن ملكيان يرى وكما يقول راسل “أن المعتقدات الدينية لا يمكن لها أن تفلت من النقد العقلاني” مشيرا إلى أن العقيدة لها العديد من التفاسير والأوصاف، لذلك لا يوجد إجابة واحدة عن السؤال عما إذا كانت عقلانية العقيدة بديهية، أم كانت هذه العقلانية نتيجة للكثير من الإستدلالات والبراهين عبر سياق متماسك، لذلك لا توجد عقيدة فى العالم يصدق أن توصف بأنها لاعقلانية، وهذه اللاعقلانية لا تفيد إطلاقا بطلان تلك العقيدة، إنما هى لا تقتضى حكما بالقياس إلى الواقع وبالتالي فالعقيدة التى لا تكون عقلانية، قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة”.[5 ]
من وجهة نظرملكيان أنه لو كانت عقلانية العقيدة متسقة مع كافة أوغالبية المعتقدات الأخرى التى يؤمن بها الفرد، عند ذلك نقول أن العقائد الدينية يمكن أن تكون عقلانية.
ملكيان يرى أن العقائد الدينية قد تتمتع بالإنسجام الداخلي وبناء عليه من الممكن وجود منظومة عقيدية دينية تتصف بالعقلانية، فالإنسجام الداخلى للمنظومة العقيدية دينية كانت أو غير دينية شىء، وإثبات تطابق تلك المنظومة مع الواقع شيء أخر.
مشيرا إلى أن عقلانية أولا عقلانية أى عقيدة من العقائد لايعنى إطلاقا صدقها أو كذبها، فالعقيدة ممكن أن تكون صادقة عقلانية أو كاذبة عقلانية أو كاذبة غير عقلانية أو صادقة ولكنها غير عقلانية العقلانية أمر نسبي من وجهة نظر ملكيان.
الحداثة والتدين
فى كتاب “كانط والحداثة الدينية” يرى أن الحداثة لا تعنى ترك المسألة الدينية أوازدراءها بقدر ما هى إعادة تدبيرعلاقتنا بالديني وترتبيها وفق حداثة دينية.
وإذا كانت الحداثة من الناحية التاريخية، حصيلة عصر النهضة، عصر سيادة الأنسنة، فذلك يعنى أن الحداثة معارضة للدين، فهى تأخذ بأسباب العقل، والتقدم، والتحرر، تحمل دعوى لطلب التجديد، قطع الصلة بالتراث، فى المجمل تعنى العقلنة أو العلمانية، إذا أخذنا الحداثة بهذا التعريف فذلك معناه عدم اجتماعها والتدين بصورته التقليدية، ألا وهى التسليم والتعبد، إذن فمتى تجتمع الحداثة مع التدين من وجهة نظر ملكيان يرى أن التدين يجتمع مع الحداثة إذا اخذناه بمعناه العام جدا، المشتمل على فكرتين حقوق الإنسان حرية الأنشطة السياسية، والإقتصادية، وتحقيق حياة جديدة، هنا يتجانس التدين مع الحداثة، ذلك لأن هذه التصورات للتدين لايشترط فيه التعبد التسليم حتى يتناقض مع الحداثة.
وللحديث بقية مع ملكيان لنرى معه مقامات الوجود ونقطة التماس مع تيليش، وما هى متطلبات البحث القرآني من وجهة نظره، وموقف الإسلام من الليبرالية.
مصادر
1- كتاب العقلانية والمعنوية مقاربات فى فلسفة الدين– مصطفى ملكيان- ت الدكتورعبد الجبار الرفاعى–حيدرنجف ص35
2- المصدر السابق ص35
3- المصدر السابق ص23
4- موقع تبيان–أحمد زايد
5- المصدر رقم 1ص108
تعليق واحد